الحموضة في الفكر

أحترم التراث الشعبي، وأمثاله، وتشبيهاته لتقريبه المفاهيم، وتطوير منهج لها مع أنه في المعرفة العامية، المثال على هذا قرن أجدادنا، حيث كان الناس العاديون وهم متدينون معتدلون، لا ينقص دينهم شيء؛ لكنهم يعرفون أن التطرف يزداد بصاحبه كما تزداد حموضة اللبن الرائب، إلى أن يصبح خميرة لبن حامضة لا تشرب، فيسمن المتطرف محمضا.
إذا أصاب أناسا، وأقصد كل أنواع التطرف، وليس التطرف الديني فقط فهو متنام ولا حدود لتناميه، هذه خاصية التطرف الأولى، أما خاصيته الثانية فهي أن التطرف يضيق على نفسه في الجماعة حتى يصير كل منهم خلية منفصلة، يحسب أن صاحبه مفرط بدينه، وأنه هو المتدين الحق، أو الشيوعي الحق، أو الرياضي الحق المنتمي لناد من الأندية، أو غيرها من الأيديلوجيات التي يتطرف فيها الناس، فلا يختلف التطرف عن بعضه لدرجة الرغبة في قتل الآخر.
التعصب، والتطرف كما وصفهما، أوائلنا حموضة خمائر تصيب مخ الإنسان ولا يزال يزداد حموضة حتى تسوء حياته، ويضيق بنفسه وقد يوصله للقتل، وللانتحار كما يفعل الانتحاريون الذين يفجرون أنفسهم.
حموضة الفكر مرض، فالفكر المحمض لا يستوعب وهو في الغالب مصاب بوساوس تصور له الأشياء بشكل خاطئ فيظهر منه تفسير مختلف للوجود.
الفكر الحامض، له وقت ينتهي بصاحبه للفناء وقد يشفى، وأفضل طريقة هي عزله عن المجتمع بمحجر استشفاء، حتى تتحسن حاله، فمن لديه حموضة وهو من النوع العنيف وليس المسالم لا يصلح تركه في البيئة الاجتماعية المتوازنة، لخطره في إيذاء الآخرين أو إقناعهم بأن يتطرفوا مثله.
المتطرف لديه قناعات لا تناقش، ويعتبرها حدود العلم والفكر، ولا يقبل غيرها، والمناصحة وما شابه من ما يتخذ فكر المتطرف وسيلة إليه ليست ناجحة؛ لأن من طبيعة المتطرف المجاراة وإخفاء نواياه الحقيقية فهو يعتبر فكره سره الذي لم يهتد إليه الآخرون، وتفسيره للنصوص على الحياة شيء لا يفهمه إلا هو، ولذلك قلنا منذ البدء إن أفضل الحلول للمتطرف عزله لزمن طويل حتى يبدأ باستيعاب الحياة كما يستوعبها بقية الناس وتخف حموضته، ولو أن النتائج لا تعطي حالات مشجعة بالشفاء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي