«سعود الفيصل» مدرسة الدبلوماسية والإدارة
غريب ذلك المساء، وموحش حد الخوف، حين يفتقد فيه الوطن الشامخ، أحد صناع هذا الشموخ!
تداولت وسائل الأخبار مساء الخميس الماضي خبر رحيل الأمير سعود الفيصل، فزفر صدر الوطن حزنا، بل صدر العالم كله! كيف لا؟ وسعود الفيصل حالة استثنائية، وشخصية يبدو أنها عصية على التكرار.
رحل سعود الفيصل الأمير والإنسان والوزير، ورجل الدولة الذي صنع الدبلوماسية ولم تصنعه، لأنه كان "مدرسة في الدبلوماسية" بأسلوبه الأنيق والراقي والمتزن والعميق الهادئ. ولا غرو في ذلك، فهو ابن الفيصل، وخريج الجامعة العريقة "برنستون"!
كثيرون تحدثوا عنه - رحمه الله - من عدة زوايا. وفي مقالي هذا سأتناول "درسا إداريا" قدمه الراحل لنا وللأجيال القادمة.
أكد الفيصل، ومن خلال سيرته العطرة الممتدة لأربعين عاما كوزير للخارجية، أن الإتقان وامتلاك أدوات النجاح وبذل الجهد المضاعف، هو سر التفوق والإنجاز. امتلك – رحمه الله - كل قدرات ومهارات الدبلوماسي. منها ما كانت لديه بالفطرة، ومنها ما امتلكها بالتدريب كتعدد اللغات التي يتقنها على سبيل المثال. ودرس آخر يتمثل في أن العمل لأجل الوطن بإخلاص وتفان يورث إنتاجا باهرا، وينعكس أيضا على حب الناس للمسؤول المخلص، فالناس تقدر وتحب من تشعر بأنه يعمل لها في منظومة الوطن.
وعلى الرغم من تعبه ومرضه الظاهر، إلا أنه لم يستسلم للمرض، بل كان يعطي دروسا في الحضور الذهني، والكفاح لأجل بلده دون كلل ولا ملل. ولعلنا نذكر تشبيهه البليغ، الذي شبه فيه معاناته مع المرض، بحال الوطن العربي، حين حضر اجتماعا لمجلس الشورى، وذكر أنه في نقاهة، وأن صحته معتلة مثل الدول العربية!
رحل الفيصل، ولم يرحل إرثه. فما زال ما بناه من "منظومة دبلوماسية" للمملكة ملء السمع والبصر. وهو الجدير بأن نعمل على توثيق سيرة هذا الجهبذ، كواحد من رموز الدولة الحديثة، وحتى يعرف مسؤولونا أن تاريخهم بعد الكرسي، هو ما تخطه أقلامهم في صفحة "الإنجازات" لا صفحة "الفلاشات". فالإنجازات تتحدث، أما الفلاشات فهي تنطفئ فور مغادرة الكرسي، وتستدير للمسؤول الجديد!
وهكذا، لم يكن سعود الفيصل شخصا اعتياديا، فلقد عاصر أحداثا كثيرة، تستحق أن تسجل، وخدم أبناء هذا الجيل. أما أبناء الأجيال القادمة، فهم بحاجة إلى كتاب كبير يقدم قصة هذه الخدمة ويوثق سيرته، رحمه الله، ويستعرض ملامح الجانب الإداري منها. كتاب كهذا، لو أنجز من قبل معهد الإدارة العامة مثلا، ووزع على السادة المسؤولين، سيكون بمنزلة حصيلة تجربة واقعية وثريّة، لقيادي "أسطوري"من الصعب أن يتكرر.
ولعلي قبل الختام أوجه بضع كلمات لكل مسؤول في المملكة، وعبر الوطن العربي الكبير، وكل من ولي "مصلحة عامة". أن اقتد بالراحل، وسطر مجدك لوطنك، فستر الثناء في عيون الناس. واعلم أن الموضوع هو قرارك الشخصي، ولك أن تختار، إما أن ترى الدعوات لك بالنجاح، وإما الفرح منك بالخلاص.
انتهت مساحة المقال، وأسدل الستار على 75 عاما من حياة كثيرة الإنجاز. عظم الله أجرنا في فقيد الوطن سعود الفيصل، رحمه الله، فقد ترجل ذلك الإداري الملهم، غير أنه خلف وراءه إرثا عظيما. اللهم اجعل روحه روحا وريحانا، وبرزخه نعيما، ونشوره أمانا، ومآله فردوسا ونعيما، "إنا لله وإنا إليه راجعون".