تأملات في أسرار سوق العمل السعودية
يعد موضوع "إيجاد الفرص الوظيفية" واحدا من أهم المواضيع الحيوية في جميع دول العالم، لكن يختلف حجمه من بلد إلى آخر. فقد يكون الموضوع شائكا لدرجة التعقيد والأولوية لدى الحكومات التي لا تمتلك الموارد الكافية، لكنه في الوقت نفسه يعد لغزا عجيبا عند تلك التي تمتلك الموارد، ومع ذلك تظهر لها نفس المشكلة!
"سوق العمل". ظهر هذا المفهوم ليوضح العلاقة بين العرض والطلب فيما يتعلق بالموارد البشرية التي تنفذ الأعمال. فالعرض يقصد به عدد الأيدي العاملة المستعدة للعمل من السكان، والطلب يقصد به حاجة أصحاب المنظمات والأعمال لهذه الموارد وتوافر الفرص الوظيفية لديهم مقابل أجر يمنح للعامل. ويظهر الخلل في هذه السوق حين تختل المعادلة بين العرض والطلب، لمصلحة كفة دون الأخرى.
وعند الحديث عن الواقع المحلي لسوق العمل السعودية، سنجد أننا أمام ذات اللغز! موارد متاحة ولله الحمد، حكومة تشجع وتذلل الصعاب أمام توظيف أبنائها، سوق نشطة في كل المجالات الاقتصادية! فأين الخلل يا ترى؟!
الأسباب عدة، وبعضها ــــ دون شك ـــ مرتبط بأخطاء في السابق، ربما لم تستطع أن تخطط استراتيجيا لهذا الكم الهائل من الموارد البشرية الطالبة العمل، ولا لهذا التخصص النوعي لدى القطاع الخاص في حاجتهم للأعمال.
كانت "الوظيفة الحكومية" في السابق تشكل الخيار الأول والأسهل لطالب العمل، بغرض تحقيق الأمن الوظيفي وتوافر المكانة الاجتماعية. وظل هذا الأمر أشبه بالتزام حكومي تجاه المواطنين، لأسباب معينة، صاحبت بعضها حداثة تأسيس مؤسسات الدولة، ووفرة الموارد، وقلة عدد السكان، ومن بينهم طالبو العمل. واستمرت هذه الحال لحقبة من الزمن، في الوقت الذي كان ينمو فيه القطاع الخاص بشكل متسارع، ويعتمد في نموه على استقدام العمالة من الخارج. الأمر الذي كون بينهما علاقة قوية للغاية، ويصعب انفصالها.
بعد سنوات، تبدلت الأحوال، وتغيرت المواقف، وكبرت الفجوة. تضخم القطاع الحكومي بعدد كبير من العاملين فيه، وأصبح هنالك عجز حتى في اعتماد وظائف جديدة من وزارة المالية. في حين ازداد تمسك القطاع الخاص بنوعية الموارد العاملة فيه، التي تعتمد على الاستقدام بشكل أساسي. بل إن ذلك القطاع أصبح يحاول أن يلتف حول حلول السعودة ليطلب مزيدا من العاملين من الخارج! فظهرت لدينا مشكلة "البطالة"، التي نتجت عن ازدياد أعداد طالبي العمل المؤهلين والجاهزين من خريجي الجامعات والكليات التقنية وغيرها، في ظل فرص محدودة في القطاعين الحكومي والخاص. كما ظهر عديد من المشكلات كالسعودة الوهمية والبطالة المقنعة وغياب الإنتاجية للعامل السعودي!
وعلى الرغم من إعداد استراتيجية التوظيف السعودية، ومرور عشر خطط تنموية خمسية، منذ عام 1390هـ، واحتواء هذه الخطط والاستراتيجيات على إجراءات لمعالجة اختلالات سوق العمل، وفي مقدمتها "البطالة". إلا أن نجاحها في الوصول إلى هذا الهدف، مقرون بالوقوف على المعوقات التي تحول دونه!
والحلول لتحقيق هذا النجاح أكبر من أن تستعرض في مقال. فالبطالة تعد ملفا وطنيا متعدد الأطراف، تشترك فيها وزارة الاقتصاد والتخطيط ووزارة الخدمة المدنية ووزارة العمل ووزارة التعليم وغيرها من الجهات ذات العلاقة. وعلى الرغم من ذلك، قد يكون من أبرز الجوانب المهمة التي تركز عليها هذه الحلول، ما يلي:
1. إعادة صناعة التعليم العام والجامعي والمهني، بما يتوافق مع سوق العمل ومتطلباتها. وإن استدعى الأمر إشراك أصحاب الأعمال، ورواد القطاع الخاص، في رسم المناهج وتقييمها، والاستفتاء عليها.
2. ترشيد استقدام العمالة بشكل تدريجي، بما لا يضر بمصالح القطاع الخاص، وبما يخدم الاعتماد على شباب الوطن، خاصة في تلك المهن البسيطة التي لا نعلم السر وراء استمرار الاستقدام عليها رغم بساطة مجهودها، إلا سببا واحدا، وهو رخص تكلفة هذه العمالة!
3. توجيه الشباب نحو فرص العمل الحر، والاستقلال بعمل خاص، وإن كان صغيرا. ودعم ذلك بالتوجيه والإرشاد نحو ما يعرف بريادة الأعمال، وتنويع مصادر التمويل لهم، وتسهيل الإجراءات، والاسترداد له.
إننا اليوم نقف على مشهد مختلف. وربما نخوض في مقبل الأيام تنافسا حادا بسبب كثير من العوامل المحيطة. وإن من أهم عوامل الاستقرار الداخلي والأمن الوطني، هو وجود الوفرة والعدالة والتنظيم في سوق العمل، والعمل على تحقيق التوازن لـ "الهرم المقلوب". فهرم خريجي "الجامعات والكليات التقنية" موجود في سوق العمل لكن بالمقلوب! نجد أن خريجي التخصصات الأكثر طلبا هم الأقل عددا، والعكس صحيح!
إن النجاح في توفير ذلك كله لن يتم دون إدراك لأهمية المرحلة، وبناء خطة وطنية استراتيجية طويلة المدى، مبنية على منهجية دقيقة، وتنطلق من دراسة مستفيضة لخصائص وتركيبة العاطلين. ليتم من خلالها إيجاد "قاعدة بيانات" دقيقة وفق تصنيف شامل لجميع المهن والتخصصات. على أن تشترك في هذه الدراسة كل مؤسسات الدولة ورجالاتها المخلصون، ويعمل الجميع على تنفيذها، وعدم التحايل على أبناء هذا الوطن بكل ما أوتوا من قوة، دون الاكتفاء بالنظرة الضيقة للمصالح الشخصية. حتى لا يجنوا على أنفسهم، وأحفادهم، كـ "براقش"!