تقادم مصافي التكرير الأوروبية.. فرصة سعودية

مصافي التكرير الأوروبية ذات السوق الناضج والطلب المتناقص على المنتجات البترولية تواجه تحديات بسبب النمو السكاني المتناقص واستراتيجيات تحسين كفاءة الطاقة وتعزيز مصادر الطاقة البديلة الأخرى.. وعلاوة على ذلك تواجه منافسة من مصافي تكرير متقدمة ومتطورة في الخليج العربي وأمريكا والمصافي الروسية القديمة التي تم تطويرها حديثا

لكم أن تتخيلوا كيف سيكون العالم لو لم تقم المملكة بهذا الدور الريادي في إمداد العالم بالنفط بطريقة تضمن استقرار أسواقه وتحقيق أكبر الفوائد لجهات إنتاجه وكذلك مصافيه وتكريره وجهات تصديره واستيراده؟ فهذا المنتج يمر من أعماق الأرض إلى المستهلك عبر عمليات كثيرة التعقيد وأسواق شديدة الحساسية.
السعودية عبر ذراعها العملاق في الصناعة "أرامكو السعودية" استطاعت أن تحقق مراكز عالمية متقدمة في كل ما يتعلق بالبترول وقد أبلت في هذا المضمار "أرامكو السعودية" بلاء حسنا فحولت البلاد من منتج بسيط إلى عملاق مصنع ومن مستورد مستهلك إلى منتج عظيم مصدر ـــ فلله الحمد أولا وآخرا.
وعند النظر إلى مصافي التكرير الأوروبية التي تمتعت بسنوات طويلة من العصر الذهبي، إلى أن جاء اليوم الذي وصل فيه عدد مصافي التكرير الأوروبية المتوقفة إلى 24 مصفاة، وذلك ما بين عامي (2009 و2015) مما أدى إلى انخفاض الطاقة الاستيعابية للتكرير إلى أقل من (مليوني برميل) يوميا من مشتقات النفط في أوروبا. وقد جاء ذلك متزامنا مع انخفاض الطلب على مشتقات النفط في دول OECD، أو دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من 13.7 إلى 15.7 مليون برميل من المشتقات بين عامي (2005 و2015).
وهذا ما يوجد مزيدا من الصعوبات أخيرا، بالرغم من تطور صناعة النفط، وتغيير الاتجاهات والتحديات الطويلة الأجل التي تواجه مصافي التكرير الأوروبية ذات السوق الناضج والطلب المتناقص على المنتجات البترولية بسبب النمو السكاني المتناقص واستراتيجيات تحسين كفاءة الطاقة، وتعزيز مصادر الطاقة البديلة الأخرى. وعلاوة على ذلك، تواجه المصافي الأوروبية البسيطة والقديمة منافسة من مصافي تكرير متقدمة، جديدة، ومتطورة في الخليج العربي وأمريكا والمصافي الروسية المطورة حديثا أيضا.
وجملة هذه الصعوبات حصرت الخيارات المتاحة أمام صناعة التكرير الأوروبية في خيار صعب وهو تقليص طاقاتها الإنتاجية بإغلاق بعض الوحدات؛ لأن معظم المصافي الأوروبية تفتقر إلى وحدات التطوير والتحسين، وإغلاق هذه المصافي سيقلل من الطاقة التكريرية وفي هذا ما سيزيد الطين بلة بزيادة العجز في بعض المنتجات وخصوصا في أسواق الديزل، حيث سجلت مصافي التكرير في أوروبا أخيرا أدنى مستوى طاقة إنتاجية لها منذ 32 عاما، وهذا يعني أنه لن تكون هناك جدوى أو حتى القدرة على إعادة الهيكلة وتطوير المصافي أو تحويلها لمجمعات بتروكيماوية Integrated Petrochemical Pomp lexes، حيث إن الربحية هناك لا تعتمد فقط على هوامش التكرير، ومن الواضح أن قطاع التكرير الأوروبي ستستمر معاناته، خاصة إذا أخذنا في الحسبان أن الواردات الإضافية الآتية من روسيا وأمريكا والمصافي الحديثة في الخليج العربي، تعد هامش ربح المنتج البترولي فرق السعر بين برميل النفط الخام وسعر برميل المنتج بعد التكرير.
#2#

سعر الديزل انخفض أخيرا في شمال غربي أوروبا إلى 0.41 دولارا للبرميل بينما كان نحو سبعة دولارات للبرميل بداية العام، أما سعر منتج البنزين فقد وصل إلى نحو 9.10 دولار للبرميل من 15.40 دولار للبرميل في شهر كانون الثاني (يناير)، ما يعني أن أوروبا وأمريكا تعانيان من سعات مصافي تكريرية زائدة تهدد أرباح المصافي البسيطة غير المعقدة Topping Refineries، في حين أن مصافي التكرير المكتملة Integrated Refineries التي تعد من أكثر المصافي تعقيدا في العالم، مازالت قادرة على تحقيق الأرباح وهي تمثل أغلبية المصافي الأمريكية، التي صممت أساسا لتكرير النفط الثقيل المصدر من دول الخليج العربي وفنزويلا والمكسيك، ولا يناسبها الزيت الخفيف، مثل خام غرب تكساس، ولا حتى الزيت الصخري الخفيف الذي ينتج إما في أماكن لا توجد بها مصافٍ أو أماكن توجد بها مصاف لا ترغب بهذا الخام المنتج الذي لا يناسبها. وهذا هو السبب الرئيس لموافقة مجلس النواب الأمريكي في كانون الأول (ديسمبر) من عام 2014 على رفع الحظر المفروض منذ 40 عاما على تصدير النفط الأمريكي.
#3#

ووفقا لتوقعات ExxonMobil عن الطاقة، فإن الطلب على الوقود لأغراض النقل التجاري الذي يتضمن المركبات الثقيلة والنقل البحري وقطاع السكك الحديدية، سينمو عالميا بنسبة 70 في المائة بحلول عام 2040، وهذا بسبب الاقتصادات الناشئة التي تستثمر في البنى التحتية اللازمة، وعمليات النقل التجاري، كما أن المصافي الأمريكية سوف تتضرر من ضعف توقعات التكرير العالمي وزيادة الصادرات خلال السنوات القليلة الماضية. شجع هذا التوسع تصدير شركات التكرير الأمريكية لزيادة العائد من الديزل مع زيادة الطلب العالمي الذي بدأ بالتراجع أخيرا.
وهذا يطرح مشكلة لأن الطلب المحلي على الديزل لا يكفى لاستيعاب وامتصاص ما في السوق المحلي الأمريكي. وفي الوقت نفسه، فإن الصادرات من المنتجات البترولية الأمريكية تصل إلى نحو أربعة ملايين برميل يوميا، مع نمو الغاز المسال الطبيعي LNG بدلا من الوقود التقليدي البنزين.
وحسب ما ذكرت معلومات إدارة الطاقة الأمريكية EIA فإن المصافي الأمريكية زادت العائد من الديزل من 25 في المائة في 2005 إلى ما يقرب من 30 في المائة في2015، وذلك إلى حد كبير لطلب الأسواق الخارجية وأوروبا بشكل أخص، التي تمثل 34 في المائة من صادرات الديزل الأمريكي في عام 2015، وهذا ما أوجد لديها تخمة في المعروض، ما أدى إلى تعبئة ناقلات عملاقة عائمة، مع تسجيل المخزون مستويات قياسية في شباط (فبراير).
وهنا لا بد من الإشادة بالدور الجبار الذي قامت به "أرامكو السعودية" بنقل المملكة من مستورد متقدم للديزل إلى مصدر، حيث كانت المملكة تحتل المرتبة الرابعة عالميا في استيراد الديزل بعد كل من فرنسا وألمانيا وهولندا. ولمن يتساءل، هل السعودية كانت تستورد الديزل؟ أقول نعم بكل تأكيد، بل والبنزين أيضا، ولذلك لجدواه الاقتصادية ومبرراته الموضوعية التي لا يتسع المقام لذكرها.. لذلك نشيد بهذه القفزة التي حققتها "أرامكو السعودية" في هذا المضمار، فالمنافسة في هذا المجال شرسة وهناك تكتلات يصعب النفاذ من خلالها للأسواق العالمية.
وللعودة إلى سوق وقود المواصلات في أوروبا، تعتمد السيارات والشاحنات في أوروبا في المقام الأول على الديزل، ومع كل ذلك فإن مصافي التكرير الأوروبية ليست قادرة على تغطية هذا الطلب المحلي ناهيك عن المنافسة عالميا، وذلك بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة والعمالة، علاوة على التغير العالمي في أنماط العرض والطلب، وزيادة الأعباء التنظيمية، مع أن الطاقة التكريرية للنفط الخام في أوروبا تصل إلى نحو 15 مليون برميل يوميا، وهو ما يمثل 16 في المائة من إجمالي الطاقة العالمية، والاتحاد الأوروبي يعد ثاني أكبر منتج للمشتقات النفطية في العالم بعد أمريكا، وعلى الرغم من ذلك فإن معظم المصافي الأوروبية حاليا بالكاد تصل للحد الذي تجني منه هامشا ربحيا محدودا، وذلك بسبب ما أسلفنا من ارتفاع تكلفة الطاقة وأجور العمالة إضافة إلى ارتفاع أسعار التشغيل والصيانة الموسمية وصرامة القوانين التي ستهبط بالطاقة التكريرية إلى أقل من 12 مليون برميل يوميا كما هو موضح في الشكل رقم 1 والشكل رقم 2.

#4#
بسبب تحول معظم أصحاب المركبات في أوروبا إلى استخدام الديزل كوقود لمركباتهم بدل البنزين، أصبح في مصافي أوروبا فائض من البنزين يتم شحنه إلى الساحل الشرقي الأمريكي، بتكاليف شحن أقل من 2.50 دولار للبرميل الذي تناقصت الطاقة التكريرية فيه بعد إغلاق عديد من مصافي الساحل الشرق الأمريكي القديمة التي لا تتماشى مع أنظمة أمريكا البيئية، ولا يوجد بها مرافق تستطيع من خلالها التفريغ من ناقلات النفط العملاقة.
وهذا توافق مع أن نسبة كبيرة من مركبات نقل الركاب في أوروبا تعتمد أصلا على وقود الديزل، وبهذا ارتفعت نسبتها من 27 في المائة في عام 2005 إلى 47 في المائة في عام 2015، ولكن دون أي محاولة للاستجابة لتزايد الطلب، حيث تم إغلاق كثير من المصافي الأوروبية بسبب التخوف من التلوث البيئي والانبعاثات الكربونية أولا. وثانيا، الجانب الاقتصادي المتمثل في صعوبات تحقيق المواصفات المطلوبة، والتشريعات الصارمة في الدول الأوروبية المحددة لمستوى الكبريت وغيره من المواد الضارة في البنزين والديزل وزيت الوقود. حيث إن هذه التشريعات تتطلب خفض مستوى الكبريت إلى نسبة ضئيلة جدا وهذا ما يكلف صناعة التكرير كثيرا من المال، ويجعل من بعض المصافي الصغيرة غير مجدية اقتصاديا. وهذا بدوره فسح المجال واسعا أمام المزيد من الواردات من روسيا وأمريكا والخليج العربي الذي يتمتع بطاقة تكريرية متصاعدة كما هو موضح في شكل رقم 2.
ومصافي التكرير الأوروبية ستنافسها منتجات مصافي التكرير الروسية والسعودية والأمريكية بعد رفع صادراتهم من الديزل، ما يتسبب في وفرة المعروض ويهدد بإلحاق المزيد من الخسائر الفادحة بالمصافي الأوروبية.
وكما نعلم أن "أرامكو السعودية" تتوسع في عمليات تداول المنتجات البترولية مع ارتفاع طاقات مصافي التكرير المحلية، وقد أصبحت أوروبا سوقا رئيسية بالاعتماد على إمكانات طاقة التكرير المحلية التي علمت "أرامكو السعودية" على زيادة إنتاجها في قفزة نوعية رائدة لتنقل المملكة إلى بلد مصدر لوقود الديزل بعد أن كان مستوردا له، مع المحافظة على الحصص السوقية الأخرى واستمرار تصدير المنتجات إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط، وآسيا والمحيط الهادئ، وشرق إفريقيا، إضافة إلى تغطية احتياجاتها المحلية.. وهذا مجهود لـ"أرامكو السعودية" يذكر ليشكر.
وكما هو موضح في شكل رقم 3، وتدخل "أرامكو" في منافسات، وبشكل متزايد مع شركات التكرير من روسيا وأمريكا للحصول على حصة من سوق الديزل في أوروبا، وإن كان أكبر منافس لمنتجات "أرامكو السعودية" في السوق الأوروبية هو روسيا، التي تعد ثالث أكبر طاقة تكريرية في العالم بعد أمريكا والصين.
وتعتمد روسيا على عائدات صناعة النفط، وقد بدأت روسيا بعد عقود من المنتجات ذات الجودة المتدنية، في إصلاح ورفع مستوى مصافيها المبنية في الحقبة السوفيتية، لتتمكن من إنتاج ديزل بمواصفات أوروبية تقتضي حد أدنى من الكبريت، لهذا برزت أخيرا كمنتج ومصدر رئيس للديزل الخالي من الكبريت المعروف بـ ULSD، الذي يؤدي إلى احتراق أنظف في محركات السيارات وهو المطلوب في أوروبا.
ومن المتوقع تحقيق زيادة في إنتاج ULSD الروسي، بحيث يصل إلى 1.1 مليون برميل يوميا هذا العام، وبالتالي فإن تخمة المعروض من الديزل الروسي قد تقلص المزيد من هوامش الربح، إضافة إلى أن الطلب على البنزين لا يزال ينمو أقوى من الديزل، في حين أن أوروبا تشهد عودة المصافي الفرنسية إلى السوق بعد الانتهاء من الإضراب العمالي أخيرا، فإن أساسيات السوق ستدعم البنزين أكثر من الديزل، وبذلك سيضعف الطلب على الديزل وتنخفض هوامش الربح.
وكما هم موضح في شكل رقم 4، فإن الطلب على وقود المواصلات في أوروبا سيظل أساسيا بالرغم من هذا التراجع في صناعة التكرير الأوروبية وكذلك أنها ستظل، جزءا أساسيا ومكملا لعديد من الصناعات الأوروبية، مع أن صناعة التكرير لم تعد قادرة على المنافسة عالميا، حيث تؤثر البيئة التنظيمية الأوروبية على القدرة التنافسية لها مقارنة بالمناطق الأخرى.
وهنا يجب أن نسأل من هو المستفيد الأكبر من تقادم مصافي التكرير الأوروبية، خصوصا أن الانخفاض في أسعار النفط الخام انتقل إلى مشتقاته؟ في حين أن جميع شركات التكرير تواجه مشكلات، ومصافي التكرير الأمريكية على وجه الخصوص فقدت ميزة مهمة تمتعت بها لسنوات وهي ميزة الخزن اللوجستي الضخم والمتاح لضخ كميات من المشتقات وقت ارتفاع الأسعار وحبس كميات عند انخفاض الأسعار Price-advantaged feed stock. إذا من يستطيع الحصول على حصة أكبر من السوق الأوروبية، الخليج العربي، أمريكا، أو روسيا؟ ومن من هؤلاء المنافسين سيعزز قوته التنافسية على المديين المتوسط والبعيد؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي