«وبالوالدين إحسانا» .. أيها المتطرفون
أصيب المجتمع بصدمة مؤلمة مفجعة لما حدث في حي الحمراء بمدينة الرياض قبل أيام، أي خلال شهر رمضان المبارك، عندما أقدم مراهقان على قتل أبويهما بدم بارد. يحدث ذلك على الرغم من أن ديننا الحنيف يأمرنا بالإحسان للوالدين حتى ولو كانا كافرين أو من غير المسلمين، فكيف لو كانا مسلمين.. فالله تبارك وتعالى يقول في محكم تنزيله: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما (23) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا). وحول حادث الحمراء الأليم، يبرز في الذهن تساؤل طالما طرح ويطرح في كل مجلس وندوة، وهو: ما طبيعة هذا الفكر التكفيري الذي يجعل الولد ينقلب ضد أبويه، لدرجة أن يستبيح دماءهما؟! وعلى الرغم من بعض الجهود لمكافحة هذا الفكر ومحاولة تصويب الخلل والاختلال الفكري لدى بعض الشباب، تتكرر حوادث العنف من قبل هؤلاء الشباب ضد الآباء والأقارب بين وقت وآخر!
على رغم من سهولة التنظير وكثرته في هذا المجال، فإن هناك صعوبة في الوصول إلى إجابات شافية، والسبب -كما أعتقد- يكمن في أن معظم الجهود المبذولة تعالج الأعراض دون التعامل مع الجذور، بل ربما دون فهم المحفزات الفكرية لهذه الأفعال التي لا يقرها الدين ولا تقبلها القيم والأعراف. فلا أعتقد أن هناك دراسات علمية موضوعية بعيدة عن العاطفة تعاملت مع هذا الفكر، من أجل معرفة مكوناته وأبعاده النفسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، ولا أعتقد أن هناك دراسات علمية جادة تناولت جذوره ومصادره. إن معظم الدراسات التي تناولت هذه الظاهرة هي دراسات وصفية تفتقر إلى الموضوعية وتتأثر بالعاطفة السياسية أو الاجتماعية أو الطائفية.
من المؤسف أن مجتمعاتنا العربية لا تزال تنظر للدراسات العلمية الجادة في مجال العلوم الاجتماعية بحساسية مفرطة لا تمكن القائمين عليها من تطبيق المنهج العلمي المنضبط ولا توفر لهم المناخ المناسب لجمع بيانات دقيقة عن مسائل حساسة ومهمة، وعلاوة على ذلك لا توجد جهات دعم وتمويل للبحث العلمي تعنى بهذه المسائل. لذلك يلاحظ أن أغلب الدراسات الجادة تنفذ في جامعات غربية وبتمويل أجنبي، ويقوم بها باحثون بعيدون عن واقع المجتمعات العربية والإسلامية.
لا ينبغي التقليل من شأن التقدم التقني ودوره في النهوض باقتصادات الدول النامية عموما، ولكن من الواضح أن انبهار الدول النامية -وفي مقدمتها الدول العربية والإسلامية- بالتطور التقني من منطلق طموحاتها المشروعة في اللحاق بالدول المتقدمة أدى إلى إهمال واضح للبحوث الاجتماعية والإنسانية، وعدم توفير الدعم المناسب لها، لذلك تعاني مراكز البحوث في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية الإهمال. وهذا الإهمال في المجتمعات العربية والإسلامية أدى إلى ضعف التنمية البشرية عموما، وعدم القدرة على بناء الإنسان خصوصا، نتيجة عدم فهم كثير من القضايا المجتمعية، ومن ثم حماية المجتمع وتعزيز أجهزته المناعية. إن الاهتمام بالبحث العلمي الجاد في مجال العلوم الاجتماعية هو من أهم سبل تحصين المجتمع من تغلغل الفكر التكفيري المتطرف الذي يقسم المجتمعات، ويكلفها الغالي والنفيس، وفي مقدمتها أرواح الأبرياء، إضافة إلى البحث العلمي، هناك حاجة ماسة إلى إطلاق برامج توعوية أسرية جادة وموضوعية لإبراز أهمية الاستقرار والبناء من جهة، وخطورة الإرهاب على الأفراد والمجتمعات من جهة أخرى، بعيدا عن التهويل أو تخوين بعض فئات المجتمع، وكذلك تطوير الخطاب الديني المعتدل، وزيادة دور المسجد في مكافحة التطرف والتشدد والفكر التكفيري.