الضريبة الانتقائية .. والصحة العامة

مؤشرات الصحة العامة في الدول ذات المستويات المعيشية العالية تشير إلى انتشار كثير من أمراض العصر كالسكري، والضغط، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والسرطان، والسمنة وتداعياتها، وبحسب الدراسات فإن العادات الغذائية السيئة والخمول يعدان من الأسباب الرئيسة لانتشار أغلب هذه الأمراض بمعدلات عالية تقترب من النسب الوبائية التي تتطلب جهودا كبيرة لمكافحتها.
وقد يستغرب البعض أن الأمراض غير المعدية يمكن أن تصنف كأوبئة، إلا أن علم الأوبئة المعاصر الذي تطور خلال النصف الثاني من القرن العشرين اندفع إلى البحث عن أسباب الأمراض غير معلومة المصدر من خلال الوسائل الجديدة، بعد أن لوحظ أنه في معظم البلدان المتقدمة اقتصاديا يزداد عبء الأمراض التي لا تنتقل عن طريق العدوى، والتي تكون غير معلومة المصدر، كالسرطان، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والسكري، والسمنة، والضغط، مقارنة بعبء الأمراض المعدية التي تتسبب فيها الكائنات الدقيقة التي يسهل السيطرة عليها بشكل كبير من خلال اتخاذ التدابير الصحية العامة، وإعطاء اللقاحات والعلاج بالمضادات الحيوية.
ولذلك أصبح علم الأوبئة يقوم بدراسة الصحة والمرض داخل المجتمعات السكانية بشكل عام، وأصبح تعريف علم الأوبئة أنه "دراسة وقوع وتوزيع الحالات أو الأحداث المرتبطة بالصحة في مجتمعات سكانية بعينها؛ ويشمل ذلك دراسة المحددات المؤثرة في تلك الحالات، وتطبيق تلك المعرفة في السيطرة على المشكلات الصحية".
العادات الغذائية السيئة كتناول الوجبات السريعة المليئة بالنشويات، وكذلك استهلاك المشروبات الغازية ومشروبات الطاقة، وازدياد نسبة المدخنين، وقلة الحركة، والسمنة المفرطة، والتوتر الزائد، أسباب أدت إلى الانتشار المفرط لأمراض العصر في بلادنا المملكة العربية السعودية، ولو أخذنا مرض السكري على سبيل المثال فإن وزارة الصحة السعودية أكدت أن واحدا من كل أربعة أشخاص إما مصاب أو في مرحلة ما قبل الإصابة بمرض السكري، ونصحت بممارسة الرياضة 50 دقيقة لثلاثة أيام في الأسبوع، لتخفيض احتمال الإصابة بالمرض، وبالتالي فنحن أمام انتشار وبائي لمرض السكري، وعلينا البحث عن العوامل التي تؤدي إلى ذلك، وكذلك إيجاد حلول تطبيقية للوقاية من المرض وعلاجه وتحسين الصحة العامة.
بكل تأكيد نسب السمنة وأمراض الضغط والقلب والأوعية الدموية والسرطان، ليست أفضل حالا من مرض السكري، فنحن نسجل مراكز متقدمة في كل تلك الأمراض التي يسبب بعضها بعضا، حيث إن مرض السكري على سبيل المثال يؤدي إلى الزيادة في ارتفاع نسبة الإصابة بأمراض القلب والسكتات الدماغية وأمراض الكلى والعجز وبعض أنواع السرطان، ولذلك فإن الصحة العامة باتت في خطر يجب تداركه للتخفيف من آثاره الصحية، والنفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وتخفيف العبء الذي يتحمله المجتمع وأجهزة الدولة.
الوقاية من أمراض العصر الوبائية واضحة وسهلة ويمكن للجميع اتخاذها وتتمثل في تحسين العادات الغذائية، وتجنب الخمول بالحركة وممارسة الرياضة ولو لثلاثة أرباع الساعة يوميا، ولكن مع الأسف الشديد فإن الوعي حيال خطورة العادات الغذائية الصحية ضعيف، ويزامنه ضعف إرادة كثير من أفراد المجتمع للتوقف عن استهلاك الأغذية الضارة، وكذلك منتجات التبغ، على الرغم من وعيهم بمخاطرها، وكذلك ــ كما أشارت "رؤية 2030" ــ فإن الفرص المتاحة حاليا لممارسة النشاط الرياضي بانتظام لا ترتقي إلى التطلعات.
نعم، فسكان الأحياء في أنحاء المملكة كافة يعانون ندرة محفزات الحركة من بيئة محفزة تشتمل على أرصفة واسعة، وأماكن للمشي، ولحركة المشاة بعيدا عن حركة السيارات ومواقفها، وملاعب رياضية بكل أنواعها التي يجب أن تنتشر في الأحياء، ليمارس الأطفال والناشئة والشباب الرياضة فيها بكل حيوية وأمان.
"رؤية المملكة 2030" التي أقرت وتستهدف رفع معدل ممارسة النشاط الرياضي في المجتمع ليصل إلى مليون رياضي سعودي ممارس بنسبة 40 في المائة خلال 15 عاما من الآن بدلا من 14 في المائة، خطوة جيدة، ويجب تفعيلها من خلال وزارة التعليم التي يجب أن تتوسع في الأنشطة الرياضية للجنسين، ومن خلال البلديات التي يجب أن تقيم الساحات الرياضية في الأحياء بشكل مكثف، وتوفر ممرات آمنة ومحفزة للمشي أيضا، ومن خلال هيئة الرياضة التي يجب أن تحفز المراكز الرياضية الأهلية لمزيد من الانتشار والتنوع في تقديم الخدمات الرياضية، التي يجب أن تشمل السباحة والألعاب الفردية وغيرها.
الضريبة الانتقائية التي أتوقع أن تتوسع لتشمل إضافة إلى منتجات التبغ ومشروبات الطاقة والغازية، كل المرطبات المحلاة بنسب عالية من السكر تتجاوز المعيار الدولي، تشكل بذاتها عنصرا مهما كتدبير سعري يعضد التدابير التوعوية والنظامية في تحسين العادات الغذائية وتجنب الضار منها، وتشكل كذلك مصدرا للإيرادات المالية التي تعوض خزانة الدولة عما تنفقه لمعالجة أمراض العصر، التي باتت تشكل أوبئة في بلادنا، وبالتالي يمكن توجيه جزء من هذه الإيرادات لدعم برامج مكافحة التدخين وبرامج التوازن الغذائي التي تعزز إرادة المدمنين على التدخين والسلع الغذائية الضارة، للإقلاع عنها، وتوجيه جزء آخر منها لهيئة الرياضة ولأمانات المدن والبلديات للتوسع في المنشآت الرياضية والملاعب بجميع أنواعها ومستوياتها لنشرها في كل الأحياء ليصل لها الأطفال والناشئة والشباب مشيا على الأقدام.
كل ذلك سيكون له أثر كبير في رفع نسبة الممارسين للرياضة، والإقلاع عن العادات الغذائية السيئة سواء لجهة النوع أو لجهة أوقات وكم الطعام، وبالتالي سترتفع حصانة المجتمع ضد الأمراض، بما في ذلك أمراض العصر، وهو ما سينعكس إيجابا على الصحة العامة للمجتمع وأفراده، وكذلك ينعكس إيجابا على الإنفاق الحكومي لمعالجة المرضى من هذه الأمراض التي تتطلب موازنات علاجية هائلة.
ختاما الضريبة الانتقائية تدبير سعري ذو أثر حاسم في الحد من استهلاك السلع الضارة، وإقلاع المدمنين عنها، ولذلك أثر كبير على الصحة العامة للمجتمع السعودي، إلا أن ذلك الأثر سيكون أكثر وضوحا إذا استخدمت بعض إيراداتها لتطوير البيئة المحفزة لممارسة الرياضة من جميع فئات المجتمع، في كل الأوقات المتاحة لهم، وفي الأحياء التي يقطنونها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي