العلاقات العامة .. ونجاح الاستراتيجيات

عادة ما تستحدث الاستراتيجيات الناجحة للدول أو المنشآت الحكومية أو الخاصة أو غير الربحية مسارات عمل جديدة لم يألفها الموظفون والشركاء والرأي العام، بل عادة ما يفتقدون فهمها والمعارف والمهارات اللازمة للمشاركة في تطبيقها بالصورة المطلوبة التي تحقق الأهداف الاستراتيجية التي تصب في "الرؤية" في إطار الرسالة، ولذلك تجدهم يقاومونها من باب الإنسان عدو ما يجهل، خصوصا إذا كان ما يجهله الإنسان قد يسبب له المتاعب والمخاطر أكثر من الراحة والفرص، ويخرجه من حالة الاتزان والراحة النفسية إلى حالة الارتباك والقلق النفسي.
وفي سبيل التصدي لهذه الحالة من الرفض والمقاومة يلجأ مديرو الاستراتيجيات لإعداد وتنفيذ خطط اتصالية تسبق جميع مراحل تطبيق الاستراتيجية من أجل التهيئة المعرفية بالدرجة الأولى التي تتزامن معها دورات تدريبية للموظفين من أجل التهيئة المهارية اللازمة لتطبيقها، وتستهدف التهيئة المعرفية التي تقلل مستوى الجهل بالاستراتيجية وبرامجها ومتطلبات تنفيذها وآثارها الإيجابية إلى تقليص الرفض والمقاومة ورفع مستوى القبول والدعم والمشاركة الإيجابية من قبل دائرة الموظفين ثم الشركاء ثم الشرائح المستهدفة من النخب وأخيرا الرأي العام.
وتقوم العلاقات العامة بالدور المهم والحيوي، بل الحاسم في تهيئة كل الشرائح المعنية بتطبيق الاستراتيجية في مساراتها الجديدة بالقوة المنشودة للوصول للمحطات المستهدفة في الأوقات المحددة. وتتمحور جهود العلاقات العامة في هذه المرحلة حول إيجاد الفهم المشترك بين المنشأة وشرائحها المستهدفة بشأن منطلقات الاستراتيجية (التحليل والتشخيص) في الأبعاد والمحاور كافة، وبشأن "الرؤية"، والرسالة، والقيم الحاكمة، والأهداف العامة، والبرامج التنفيذية ومشاريعها، ومرحلية التنفيذ، ومحطات الوصول، ومؤشرات قياس الأداء والنتائج، والآثار الإيجابية المترتبة على الجميع، والدور المنتظر من كل شريحة أن تنهض به لتطبيق الشق الخاص بها من الاستراتيجية بالشكل الصحيح بما يعود بالنفع والفائدة على الجميع وفق قاعدة الجميع يربح في إطار ضرورة التغير وفقا لمتغيرات البيئة الديناميكية، وإيجاد الفهم المشترك الذي يعزز صورة المنشأة وقدرتها على التأثير لتطبيق استراتيجيتها بأعلى درجات القبول والدعم. وأقل درجات الرفض والمقاومة ليس بالأمر الهين ويتطلب هو الآخر إعداد استراتيجيات اتصالية تنطلق من تحليل استراتيجي من الجذور للوصول لتشخيص دقيق كصورة بالغة الوضوح والدقة، ومن ثم تحديد المسارات الاتصالية الاستراتيجية، وبرامجها، ومشاريعها التنفيذية التي تسبق برامج كل مرحلة من مراحل تطبيق الاستراتيجية الرئيسة للمنشأة، وهذا يتطلب متخصصا في التخطيط الاستراتيجي الاتصالي قادرا بالدرجة الأولى على فهم استراتيجية المنشأة، وقادرا على تحليل صورة وسمعة المنشأة، وموقف الشرائح من الاستراتيجية الجديدة وردة أفعالهم المتوقعة وأسبابها، وكيفية معالجتها بمسارات اتصالية استراتيجية ملائمة باستخدام الوسائل والآليات الاتصالية والمتحدثين المناسبين، ليبني الإطار الفكري السليم ثم يمرر الرسائل الاستراتيجية الإقناعية، والترويجية المحفزة، والتوعوية والإرشادية المهيئة والموجهة، ورسائل تمتين العلاقات مع الشركاء، وأخيرا الرسائل التثقيفية لبناء ثقافة مشتركة داخل المنشأة وخارجها قدر الإمكان.
العلاقات العامة ذات المدخل الاستراتيجي لم يألفها معظم ممارسي العلاقات العامة لعدة أسباب منها ندرة المنشآت التي تعمل وفق خطط استراتيجية فاعلة، ومنها ندرة الممارسين لهذا المفهوم حيث يطغى مفهوم العلاقات العامة المتخصصة بالمراسم والتشريفات، وتنظيم الأنشطة كالمعارض والندوات والاحتفالات، وأخيرا العلاقات الإعلامية ومتابعة النشر والبث، ولذلك فإن الممارسين للتخطيط الاتصالي الاستراتيجي نادرون، وفي حال توافروا فإنهم يعانون جيوشا من الموظفين في مجال العلاقات العامة الذين لا يفقهون مبادئ الخطط الاتصالية الاستراتيجية ماهية وأهمية، ولذلك يقاومونهم بشدة ويخرجون عن خططهم باجتهادات تجعل الخطط الاتصالية الاستراتيجية غير ذات جدوى، بل تكون ذات أضرار كبيرة على المنشأة في كثير من الأحيان.
من ملاحظاتي الخاصة، وما اطلعت عليه في مجال التخطيط الاستراتيجي، وفي مجال العلاقات العامة، وضرورة استباق تطبيق الخطط الاستراتيجية بخطط اتصالية استراتيجية تهيئ الشرائح المستهدفة، وتحفز وتحشد الشركاء، وتمتن العلاقات مع كل ذي صلة حسب الأولوية، وتحمي مصالح المنشأة من خلال التواصل الوقائي أو التواصل العلاجي، أكاد أجزم أن معظم العوائق التي تقف في وجه تطبيق الاستراتيجيات تعود لضعف شديد في إدارة العلاقات العامة في معظم المنشآت، خصوصا أن استراتيجيات معظم المنشآت على درجة عالية من الجودة ومدعومة بهياكل ملائمة وطاقات بشرية مؤهلة معرفيا ومهاريا ومدعومة بمكاتب إدارة البرامج الاستراتيجية، التي تنسق الجهود بين جميع مسؤولي البرامج التنفيذية الاستراتيجية لتحقيق أقصى درجات التكامل بينها لتحقيق الرؤية والرسالة والأهداف.
ويأتي الضعف في الاستراتيجيات الاتصالية- حسب رأيي- لضعف قدرات الموظفين، الذين لا يعترفون بضعفهم في هذا المجال ويصرون على أنهم أصحاب تجربة وخبرات تمكنهم من تحقيق التفاهم المشترك بين المنشأة وشرائحها المستهدفة وشركائها وتعزيز قوتها في التأثير الإيجابي وهم ليسوا كذلك بتاتا، بل إنهم يفتقدون فهم استراتيجية منشأتهم بالدرجة الأولى، ولذلك يبددون الإمكانات بشكل عشوائي يزيد الموقف تعقيدا بما يرفع درجات الرفض والمقاومة، ومع الأسف الشديد هناك قضايا باتت تشكل للدولة قلقا كبيرا رغم جودة الاستراتيجيات العلاجية لها، ولكن فشل الاستراتيجيات الاتصالية عقّد الموقف وجعل الحلول الاستراتيجية الإبداعية المستدامة في نظر الشرائح المستهدفة مشكلات كبيرة يجب مقاومتها.
أكدت الدراسات أن المنظمات، التي استخدمت مفهوم التخطيط الاستراتيجي تميزت بمعدل نمو عال جدا في المبيعات والأموال، وأن المنظمات التي أخذت بمفهوم التخطيط الاستراتيجي فاقت المنظمات التي لم تأخذ بهذا المفهوم في 13 مؤشرا من مؤشرات الأداء للمنظمة، ولكن كل ذلك مرهون بشكل كبير بجودة الاستراتيجية الاتصالية السابقة والمتزامنة.
ختاما، من الواضح أننا نعيش في ظل "رؤية 2030" مرحلة الاستراتيجيات المدعومة بمكاتب إدارة البرامج الاستراتيجية، ومكاتب مراقبة الأداء، ومكاتب الحوكمة، وكل ذلك مهم وحيوي وضروري إلا أننا نعاني ضعفا في الخطط الاتصالية الاستراتيجية الداعمة لتلك الاستراتيجيات وهذا خلل كبير يجب تداركه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي