مختصون دوليون لـ"الاقتصادية": السعودية تحاصر «النفط» باقتصاد متنوع

مختصون دوليون لـ"الاقتصادية": السعودية تحاصر «النفط» باقتصاد متنوع

هشام محمود من لندن

استحوذت الميزانية السعودية لعام 2018 التي أقرها مجلس الوزراء أمس الأول على اهتمام المختصين الاقتصاديين الذين أكدوا أن معالم اقتصاد جديد متنوع بدأت بالبروز والتبلور في السعودية، وذلك التأسيس لمرحلة اقتصاد ما بعد النفط.
هذا الاهتمام بالتطورات الاقتصادية في السعودية، لم يأت صدفة، إذ كانت المملكة دائما محل اهتمام ومتابعة دقيقة من وسائل الإعلام الدولية وتحديدا الغربية وبالأخص الإعلام البريطاني.
وفي السنوات الأخيرة، زادت كثافة المتابعة الإعلامية البريطانية والأوروبية للأحداث الجارية في السعودية، وبات من الصعب أن يمر يوم واحد دون أن تجد مقالا في كبريات الصحف البريطانية، أو تعليقا تلفزيونيا أو ندوة أكاديمية لا تتناول الوضع في المملكة والمرحلة الجديدة التي تمر بها.
ولم ينبع الاهتمام من الوضع الإقليمي والدولي المميز للرياض فقط، وإنما كان منبعه دائما إدراك مراكز صنع القرار الدولي والإعلام الغربي أن تغير الهيكل السياسي والاقتصادي في المملكة يعني فتح صفحة جديدة لموازين القوى الإقليمية، وإعادة ترسيم ملامح خريطة سياسية واقتصادية وفكرية للشرق الأوسط، خريطة جديدة يمتد تأثيرها إلى خارج الإقليم، ولتصبح نموذجا لا يضع السعودية في قلب الحدث وحسب، بقدر ما يجعل منها حدثا متواصلا في قدرته على العطاء بضخ دماء جديدة إلى منطقة الشرق الأوسط، تؤهل المنطقة بأكملها للقيام بدور فاعل في الساحة الدولية افتقدته لعقود.
وفي خضم المتابعة الإعلامية والأكاديمية الغربية للملف السعودي، استحوذ اقتصاد المملكة دائما وما يمر به من تغييرات جذرية على اهتمام الإعلام البريطاني. فهو حجر الزاوية في سعودية القرن الـ21، وشريان الحياة الذي يمكنه تجسيد رؤية الرياض من أفكار وقيم إلى واقع معيشي ملموس، واقع يتسم بالقدرة على نقل مستويات معيشية الملايين من أبناء المملكة إلى مرحلة جديدة تتصف بتغيير نوعي حقيقي، فالتغير الاقتصادي من النفط الذي اختزل لعقود كل آليات القوى في المجتمع السعودي، وحصرها فيه، مهمشا كل المنابع الاقتصادية الحيوية الأخرى القادرة على دفع اقتصاد المملكة للأمام، إلى مملكة بعباءة جديدة تحاصر فيه النفط بدلا من أن يحاصرها، وتجعله آلية من آليات القوى الكامنة وليس اختزالا لكل آليات القوى السعودية.
فالتنوع كما يقول البروفيسور ألن دين؛ أستاذ اقتصادات الشرق الأوسط، ليس عنوان الميزانية السعودية الجديدة، بل هو عنوان مرحلة بأكملها، وما الميزانية التي تم الإعلان عنها أمس إلا إحدى الخطوات العملية لتجسيد تلك الرؤية وفقا لتعليقاته لـ"الاقتصادية".
البروفسير ألن دين هو أحد الأشخاص الذين استطلعت "الاقتصادية" آراءهم بشأن الميزانية السعودية الجديدة وأهم ملامحها، وماذا تعني ضمن التغيرات الاقتصادية التي تمر بها المملكة؟ وإلى أي مدى يمكن أن تسهم في وضع أسس لمرحلة اقتصادية جديدة في السعودية؟ وما طبيعة التحديات التي يمكن أن تواجهها مستقبلا؟
يعتقد البروفيسور دين، أن التحليل الأولي للميزانية السعودية يجب أن يتوقف عند الحجم قبل الدخول إلى التحليل القطاعي لها.
وقال لـ"الاقتصادية" إنه "وفقا لما أعلن رسميا فإن ميزانية العام هي الأكبر في تاريخ المملكة، وهذا الأمر شديد الأهمية وله مدلول خاص لا ينبع فقط من الحجم، وهو في حد ذاته أمر مهم، لكن ينبع من أن هذا الحجم الضخم يأتي في وقت تعاني فيه أسعار النفط وضعا غير إيجابي، لا يصب كثيرا في صالح البلدان المنتجة، ورغم ذلك قررت أن تتبنى الرياض نهجا تنمويا مكثفا من خلال ميزانية ضخمة، وهذا لا شك يعد إحدى الايجابيات الرئيسة لميزانية هذا العام".
وأضاف، "لكن الأمر لا يتوقف عند الحجم، إنما الأكثر أهمية هو فلسفة الميزانية في حد ذاتها، إذ تبنت فكرة تنويع مصادر الدخل من خلال تنويع القاعدة الاقتصادية، وتلك النقطة تحديدا تمثل تحولا نوعيا في الفكر الاقتصادي السعودي، وإذا كانت السنوات القليلة الماضية قد شهدت تركيزا على فكرة التنوع الاقتصادي في المملكة للخروج من دائرة النفط المغلقة، فإن ميزانية هذا العام تعد أكثر الخطوات ترجمة فعلية لهذا التوجه، فخفض الاعتماد على الإيرادات النفطية، سيتواكب حتما مع مجموعة من التدابير والإجراءات التي ستسمح بإعادة التوازن المفقود للاقتصاد السعودي عبر تحرير القطاع الخاص من قيوده، وإضافة موارد جديدة للدولة بما يمثل تنشيطا فعليا للقدرات الاقتصادية للمملكة".
من ناحيتها رأت الدكتورة إيما جونس أستاذة المالية العامة، أن ميزانية العام في السعودية تأتي ضمن سلسلة من الميزانيات التي تبنتها الرياض في السنوات الأخيرة، تمهد كلا من الاقتصاد والمجتمع السعودي إلى مرحلة ما بعد النفط.
وقالت لـ"الاقتصادية" إن "فلسفة التنوع الاقتصادي التي تبنتها السعودية في "رؤية 2030" تهدف إلى تأهيل الاقتصاد الوطني لمرحلة ما بعد النفط، إلا أن عملية التأهيل تلك تتم تدريجيا، لكن بدرجات مختلفة من القوى حسب طبيعة كل مرحلة، فالميزانيات التي تم تبنيها في السنوات السابقة، كانت تسعى إلى وضع البنية الأولية لاقتصاد يقوم فيه النفط بالدور الرئيس، يترافق ذلك مع دور متصاعد ولكن محدود للقطاعات الأخرى، الأمر يبدو متواصلا مع تلك الميزانية أيضا، لكن التغيير النوعي الذي أحدثته أن هناك عملية تصحيح لعدد من القطاعات، حيث إن تلك القطاعات تمتلك الآن زخمها الداخلي، لتصبح في المستقبل قادرة على تمويل ذاتها بعيدا عن دعم الدولة لها، بل يمكن أن تحقق فائضا لتمويل القطاعات الأخرى".
وأضافت أن "هذا التنوع للتأهل لمرحلة ما بعد النفط يتواكب مع دعم قوي للقطاع الخاص، وبالطبع لا يمكن التوقع بأن يحل القطاع الخاص محل قطاعات الدولة الاقتصادية في القريب العاجل، لكن الآن تسير الأمور على الطريق الصحيح، فالدولة تفتح المجال واسعا للقطاع الخاص لامتلاك استقلالية بعيدا عن آليات التقليدية لاقتصادات الدولة السعودية".
وتابعت، أنه "بطبيعة الحال تتطلب مرحلة ما بعد النفط استحداث مصادر دخل جديدة للسعودية، ربما تكون الضرائب أحد عناصرها الأساسية، وأهمية الضرائب في الحالة السعودية لا تقف عند حدود الإضافة إلى مصادر الدخل الوطني، بقدر ما يجعل القطاع الخاص يعيد توظيف آليات عمله وفقا لتلك لمفاهيم، ما يجعلنا قادرين على التنبؤ بميلاد قطاع خاص سعودي بملامح جديدة تتصف بالاستقلالية والكفاءة في اتخاذ القرار" .
إلا أن الباحث الاقتصادي جون رونسون، يعتقد أن قضية الإنفاق ربما تمثل حجر الزاوية في كل من ميزانية العام، وفي فكر فلسفة التنوع التي تتبناها الحكومة السعودية.
وأوضحت رونسون لـ"الاقتصادية"، أن "التحدي الحقيقي الذي ستواجهه المملكة مستقبلا، يتعلق بالأساس برفع الكفاءة في الإنفاق أكثر منها من زيادة الإيرادات.. وتحقيق كفاءة الإنفاق خاصة في القطاعات الحكومية، يمثل أحد المعايير الرئيسة التي يمكن القياس عليها لإدراك مدى النجاح الذي يمكن أن تحققه الحكومة في تنويع البنية الاقتصادية، وخفض الاعتماد على النفط". وأضاف، "من الواضح أن الاتجاه الذي تتبناه السعودية يكشف أن الجدوى الاقتصادية للمشاريع سيمثل العنصر الحاسم في قرار قبول أو رفض مشروع من المشاريع، ويترافق ذلك مع خفض الهدر المالي في القطاع الحكومي، وهو ما يكشف أن مفهوم كفاءة الإنفاق يعد المحور الرئيس الذي ستستند عليه ميزانية العام وربما أعوام عديدة مقبلة"
ويشيد جون رونسون وغيره من الاقتصاديين الذين استطلعت "الاقتصادية" وجهات نظرهم بنجاح الميزانية في خفض العجز كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.
ويعتبر الدكتور بوريس نتشيلسون الاستشاري في المجموعة الدولية للاستثمار، أن تلك الخطوة تمثل بالنسبة لكثير من المؤسسات المالية والاستثمارية الدولية مؤشرا رئيسا على الآفاق الإيجابية في مجال الاستثمار في الاقتصاد السعودي.
وقال لـ"لاقتصادية" إنه "لا شك أن عملية الإصلاح الاقتصادي في أي مجتمع من المجتمعات تتطلب في بعض مراحلها تقليص الإنفاق الحكومي، وفي الاقتصادات الناشئة كالاقتصاد السعودي على سبيل المثال حيث لم يتبلور دور فاعل مستقل للقطاع الخاص بعد، يعني تقليص الإنفاق العام انخفاض الجاذبية أمام المستثمرين الأجانب للاستثمار في هذا الاقتصاد، لكن الرياض سريعا ما تفادت هذا الوضع عبر تخفيف حدة الضغوط الاقتصادية لتفادي الانكماش بل، وتنشيط الاقتصاد عبر حزم تحفيزية، هذا الوضع يتزامن الآن مع خفض معدل العجز وميزانية هي الأكبر في التاريخ السعودي، ما يفتح الباب واسعا لتنشيط الاقتصاد السعودي وتحولها إلى مركز إقليمي لجذب الاستثمارات الدولية بمعدلات غير مسبوقة"
وأشار إلى أن "الاستثمارات الدولية ستنصب على مجموعة من القطاعات قد يكون من بينها الطاقة، لكنها لن تكون القطاع الوحيد الجاذب للاستثمارات الخارجية، في ظل الجاذبية التي تمثلها قطاعات أخرى، إذ أظهرت ميزانية العام المقبل، رغبة الدولة السعودية في تحقيق مزيد من الأداء الجيد والنهوض بها، مثل قطاعي التعليم والصحة إضافة إلى قطاع الإسكان".
ولفت إلى أن "أكثر الجوانب بريقا في ميزانية السعودية للعام المقبل، أنها تأتي ضمن مخطط متكامل للنهوض الاقتصادي، وهو ما يجعل منها أحد الأعمدة الرئيسة في مجمل التحرك الراهن في المملكة، لإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني، بما يتناسب مع "رؤية 2030"، ومن ثم فهي بتركيبتها الراهنة تمد الاقتصاد السعودي بروافد أكثر صلابة للتنوع الاقتصادي".
وأضاف، أنه بطبيعة الحال سيظل النفط القطاع الرائد في إمداد الاقتصاد السعودي بالمدخلات المالية اللازمة للتنمية المستدامة، لكن أيضا بدأت أسس اقتصاد قائم على التنوع، المدعوم بقوى النمو الداخلي في البروز والتبلور، وهو ما كانت تفتقده المملكة لعقود، وهذا التنوع يتطلب استنهاض القدرات الكامنة في السعودية، مع مزيد من الرقابة على أساليب الإنفاق في القطاع العام لتقليص الهدر المالي، وإيجاد مناخات جاذبة للاستثمار المحلي والأجنبي".

سمات

الأكثر قراءة