التعصب .. عنقاء متوحش يسعى وراء طرائد جديدة
يحدث أن تصدر في بعض الأحيان كتب نوعية، بما تطرحه من قضايا وتتناوله من مواضيع، إلا أنها لا تحظى بما تستحق من اهتمام وعناية من جانب القراء لحظة إصدارها. بيد أنها مع التقدم في "العمر"؛ وعكس سنن التاريخ التي تحتم النسيان والإهمال، تجلب الأنظار وتعود بشكل تدريجي إلى واجهة النقاش والبحث والمتابعة من قبل الجمهور.
يعد كتاب البروفيسور الفرنسي برنار شوفييه Bernard Chouvier؛ الأستاذ في معهد "علم النفس المرضي" في جامعة ليون، الصادر باللغة الفرنسية قبل نحو عقد من الزمن؛ شهر نيسان (أبريل) 2009، بعنوان les Fanatiques-la folie de croire، الذي نقله المترجم السوري قاسم المقداد إلى اللغة العربية؛ عن دار نينوى حديثا (2017)، بذات العنوان "المتعصبون- جنون الإيمان" في أكثر من 250 صفحة، واحدا من هذه الكتب التي فرضت نفسها على الساحة الفكرية بشكل استرجاعي.
أدى تزايد موجات التعصب؛ بمختلف أنواعه، في العديد من مناطق العالم إلى نفض الغبار عما كتبه الرجل عن هذه الظاهرة. ومنه نبوءته في مستهل الكتاب بأن "التعصب ينمو إلى الاتساع، والراديكالية تمضي في تصاعد مخيف، وكلاهما كأنه ينبعث من رماده بأشكال متنوعة كالعنقاء المتوحش التي لا يتوقف سعيها وراء طرائد جديدة".
بعيدا عن المصادرات والأحكام والمواقف المسبقة، تحرى شوفييه الدقة والحياد وهو يبحث في موضوع صار الانحياز قاعدة عند كل باحث فيه، ما دفعه إلى الاستعانة بعدة مفاهيمية من علوم شتى، إذ نجد في الفصول التسعة للكتاب علم النفس متجاورا مع التاريخ، والفلسفة جنبا إلى جنب مع علم الاجتماع ما يكشف عن تشابك ظاهرة التعصب، عكس ما يتم الترويج له في الكتابات المتداولة عن الموضوع.
يستبعد الكاتب الادعاء القائل إن "التعصب ابن اليوم، ووليد الحداثة والعولمة"، ويثبت في المقابل وفق تسلسل كرونولوجي أن الموضوع متجدر في التاريخي الإنساني الطويل. إذ لا يخلو عصر معين من متعصبين، لكن الفارق يبقى في حجمهم وطبيعة الأعمال التي يقومون بها. ويبقى القرن 18 بداية استخدام المفهوم بنفس دلالته اليوم، حين استخدم للتنديد بتزمت ديني أطلق عليه اسم "زيلوتيه"، نسبة إلى زيلوت اليهودي المتعصب.
يقف الكاتب مطولا عند التعصب من زاوية البنية النفسية للمتعصب، التي يقسمها إلى أربعة أصناف: "الملهم والمعظم والمطلع والساخط"، وهي أنماط قديمة، أضيف إليها نمط خامس؛ في الزمن الحديث، أطلق عليه وصف "الإرهابي". وتولى في الفصل الخامس الذي عنونه بـ"الإرهاب والنزعة التدميرية" تعريف الإرهاب بأنه "شكل خاص من أشكال التعصب، والإرهابي هو المتعصب المقتنع بصدق أفكاره والمستعد لاستخدام العنف من أجل نقلها للآخرين أو فرضها عليهم".
يعترف شوفييه بصعوبة الارتكاز على هذه الزاوية؛ أي البنية النفسية، والقول بدقة التحليل وصدقية النتائج، ففي نظره "رسم لوحة للمتعصب يعني أن نضع له وجها، ونتعرف على الشخص الذي يتخفى خلف القناع".
لكن في المقابل، يعمل طيلة فصول الكتاب على كسر الصورَ النمطية حول التعصب، كمتلازمة الفقر والتهميش أو التعرض لعمليات غسل دماغ، ويرفض الشائع لدى كثير من الكتاب والمحليين النفسيين، أي اعتبار الدين سببا لتعصب، بل بل يرى أن الممارسات الدينية والمتدينين ليسوا متعصبين بالضرورة، وإنما يصار بهم إلى هذا الطريق عبر ما أسماها "الأيديولوجيا المرفقة بالأديان". وأن المتعصب بشكل عام هو أي شخص يمتلك تلك النزعة لتدمير ذاته أو من هم حوله بسبب عقدة نقص أو إحساس بالذنب، وهو يحاول أن يلصق ممارساته بالدين.
وهنا يجد تفسيرا لما يقدم عليه بعض الأشخاص المتعصبين ممن يفنون حياتهم انتحارا أو يعمدوا إلى قتل أبرياء مدنيين عابرين، ليس لديهم معهم أي علاقة أو عداوة. كل هؤلاء أشخاص مختلون، واختلالهم هذا ليس مرتبطا بالدين بالضرورة، ولكنه نتيجة الإحساس بالاضطهاد؛ وربما الاغتراب في مجتمعهم، يدفعهم ذلك إلى تحويل ذواتهم إلى "مادة ناسفة" أو "قاتلة"، ولسان حالهم يردد "بما أن الآخرين لا يفهمونني، وبما أنهم يضطهدونني، ويدفعون بي إلى أقصى الحدود، فسأحقق لهم رغبتهم بشطب نفسي من هذا الكوكب، لكن عليهم أن يدفعوا الثمن دما ودموعا".
يعزز البروفيسور طرحه هذا بسرد نماذج لأشخاص متطرفين، لم يكونوا متدينين بأي شكل من الأشكال، غير أنهم مارسوا عنفهم من أجل ما يعتبرونها قضايا وطنية أو فكرية أو عنصرية أو شخصية.
ببساطة لأن الفرد المتعصب لم يعد سيد نفسه، لأنه مفتقد لحس التمييز والحكم الشخصي. وكل ما يملكه إيمان بسيط وقناعة لا تهتز. إننا أمام "الكاميكاز" (التضحية بالنفس) التي تمثل "أكمل أشكال التعصب؛ لأن من يقدم على هذه التضحية بالنفس يبرهن عن إيمانه المطلق بالقضية التي يحملها وتحمله".
توقف شوفييه طويلا عند ظاهرة "الكاميكاز الإسلامي"؛ أو ما يصطلح عليه اليوم "الإرهابي"، معتبرا أن لصاحبها ثلاث خصائص؛ أولها: الوقوع تحت السلطة التامة لأيديولوجيا معينة دينية أو سياسية، وثانيها: التشبع بالمثال الجمعي، فلا يستطيع احتمال التناقض، وثالثها: رؤية الفعل العنيف المتعصب هو الشكل الوحيد الفعال لخدمة القضية.
ليخلص إلى قاعدة يرى أنها حكمت ظاهرة التعصب عبر التاريخ، مفادها أن "التضحية بالذات من أجل الدين أو الوطن أو الجماعة أو الأسرة أو حتى من أجل شخصية كاريزمية قادرة على جذب أتباع يدينون لها بالولاء ويفدونها؛ يمثل أساس التعصب العنيف في كل العصور".
مما لا شك فيه أن برنار شوفييه سيبقى إلى جانب آخرين (تشومسكي، موران، أونفري، تود...) ممن سجلوا موقفا ضد "الإجماع الغربي المصنوع" لخدمة أجندة غربية، تعمل على ربط الإسلام بالتعصب؛ منذ أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، قصد تحقيق غايات سياسية وأهداف خاصة حددت سلفا، تحتاج فقط إلى مبرر وغطاء لإضفاء الشرعية عليها وتسويقها على الصعيد الدولي.