بالتدريج
عرضت على أحد زملائي فرصة إدارية كبيرة في مستهل حياته الوظيفية، لكنه اعتذر عنها وسط ذهولنا أجمعين.
فقد كان بارعا جدا وماهرا للغاية، استغربنا كيف يرفض هذه الفرصة الذهبية التي لا تتكرر كثيرا.
حاولنا إخماد الأسئلة الفضولية، التي تشتعل في أعماقنا وتعتمل تجاه هذا القرار المثير.
لكن بعد مرور أعوام، وجدنا هذا الزميل المبدع يتسنم أعلى المناصب، ويقود ملفات صعبة بخبرة وكفاءة بالغة.
في مناسبة جمعتنا، أطلقت سهم السؤال الذي في رأسي، وسألته عن السر الذي دعاه لإدارة ظهره لوظيفة قيادية، كان يمكن أن تختصر عليه أعواما، فأجاب وهو يبتسم:
"أما زلت تتذكرها يا عبدالله؟.. كان الانصراف عنها أحد أجمل قراراتي".
وشرع في شرح سبب جمال تلك الخطوة بحسب رأيه.
وأرجع إدارة ظهره لتلك الفرصة وقتئذ إلى أنه كان "غير جاهز"، إذ لم يكن متمرسا بما فيه الكفاية.
يقول وهو يستحضر لحظات اتخاذ القرار السعيد:
"قد تثبتني في مكاني طويلا إثر عدم خبرتي وقتها، لست صخرة، أريد أن أمضي وأتقدم".
نخطئ كثيرا في استعجال الوصول.
الصعود جميل، ولكن الأجمل أن يكون بالتدريج.
فكل لحظة مفعمة بتحدياتها وهمومها وتجاربها، تسعفنا على الصمود وعدم السقوط بسرعة.
التسلق التدريجي يقوي عضلاتنا وإرادتنا وقدراتنا، أما الوصول إلى القمة مباشرة عبر حرق المراحل فيحرمنا المتعة والتجربة والكفاءة والخبرة.
اليوم زميلي لم ينل منصبا بمستوى تلك الفرصة، فحسب، وإنما أكثر منها امتيازات وعلاقات، ورمى خلفه تلك الوظيفة في غياهب النسيان، كدرس لكل من سمع وعرف عنها من المقربين منه.
أستعيد قرار زميلي، وأنا أرى تهافت بعض الشباب المبدع على المناصب، قبل أن تنضج تجربته ويشتد عوده.
لا أتحدث عن عقود من الخبرة، بل أعوام قليلة يتشرب فيها المرء التحديات ويواجهها.
الأمر لا يقتصر على المنصب فقط، وإنما سائر مناحي الحياة.
عليك أن تستمتع برحلتك وتعيشها، لتساعدك وتسعدك عند الوصول.
الفرصة لا تأتي مرة واحدة، بل تأتي مرات لكل من يتسلح بالتجارب المديدة والخبرات العريضة.
حقق كل شيء يا صديقي، ولكن بالتدريج والتدرج، الذي سيجعل منك شخصا مملوءا بالحكمة والضوء والفرص.