تجديد الحرب على الفساد

تعد هيئة الأمم المتحدة أن اليوم التاسع من ديسمبر هو اليوم العالمي لمحاربة الفساد وإعلاء مبدأ النزاهة والمساءلة، ولقد تقرر تحديد اليوم العالمي لمحاربة الفساد بعد أن استشعرت الأمم المتحدة أن معدلات التنمية المستدامة تتعرض في كل دول العالم لأضرار بالغة بسبب انتشار الفساد في مؤسسات الدول الأعضاء.
وإزاء زيادة انتشار الفساد بين أروقة المؤسسات الحكومية لجأت الدول إلى تأسيس المؤسسات الرقابية الهادفة إلى محاربة الفساد وتحجيم دوره وتعطيل كل القوى الفاسدة الرامية إلى سرقة المكتسبات التنموية التي تحققها الدولة أو الدول.
والحقيقة، إن الفساد بات ينتشر في كل الدول فقيرها وغنيها، كبيرها وصغيرها، ولم يترك دولة إلا وألحق بها أضرارا بالغة. ووفقا لتقديرات المنتدى الاقتصادي العالمي، فإن تكلفة الفساد تبلغ ما لا يقل عن 2,6 تريليون دولار أو 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كذلك ألمح تصريح صادر من البنك الدولي أن مجموع ما تدفعه الشركات والأفراد كرشا كل عام تزيد على تريليون دولار، وتقول التقارير الرقابية: إن الفساد يولد مزيدا من الفساد ويعزز ثقافة الإفلات من العقوبات الرادعة.
والمملكة مثلها مثل كل دول العالم باشرت تأسيس المؤسسات الرقابية الهادفة إلى محاربة الفساد وترسيخ مبادئ النزاهة والمساءلة، ففي عهد الملك سعود، أي قبل أكثر من 60 عاما صدر نظام باسم "من أين لك هذا؟"، وهو نظام يهدف إلى تنقية المناخ الإداري في المملكة من شوائب الفساد، وخيانة الأمانة، والتدليس، وفي عهد الملك فيصل صدر أمر ملكي بإنشاء هيئة الرقابة والتحقيق، وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز صدرت أوامر ملكية موفقة لإعادة هيكلة أنظمة الرقابة ومكافحة الفساد وتحقيق النزاهة ممثلة في ضم هيئة الرقابة والتحقيق والمباحث الإدارية إلى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد "نزاهة"، وتعديل اسمها ليكون "هيئة الرقابة ومكافحة الفساد"، ومنح النظام الجديد للهيئة الجديدة صلاحيات استثنائية واتسع مفهوم عمل مكافحة الفساد بشكل يحقق الفائدة المرجوة من هذا التوجه، ومن أبرزه: إنشاء وحدة تحقيق وادعاء جنائي، كما منحها حق فصل الموظف الحكومي الذي تحوم حوله شبهات الفساد بأمر ملكي مع استمرار مقاضاته قانونيا حتى يصدر الحكم النهائي، كذلك أعادت الحكومة هيكلة أجهزة الرقابة ومحاربة الفساد ومنحت الجهات المختصة حق التدخل إذا لاحظت أن ثروة الموظف العام ومن في حكمه بعد توليه الوظيفة زادت بشكل لا يتناسب مع دخله، أو موارده الطبيعية بناء على قرائن موضوعية مبنية على تحريات مالية بارتكابه جرائم فساد مالي أو إداري، فيكون عبء الإثبات على الموظف للتحقق من أن ما لديه من أموال تم اكتسابها بطرق مشروعة، وفي حال عجزه عن إثبات مصدرها المشروع تحال نتائج التحريات المالية إلى وحدة التحقيق والادعاء الجنائي في الهيئة للتحقيق مع الموظف المعني واتخاذ ما يلزم نظاما.
وواضح مما سبق أن التحقيق مع الموظف لن يكون تحقيقا عشوائيا، وإنما يستند إلى قرائن وشواهد قانونية موضوعية واضحة حتى لا تشوب القضايا أي شائبة تسلط أو تنمر. كما أن القوانين الجديدة للرقابة والمساءلة تجلل مبدأ فرض الحزم وممارسة مبادئ الشفافية والنزاهة على كل من يقوم بالوظيفة العامة، ليكون الموظف هو الحريص على كرامة الوظيفة، وفي الوقت نفسه تكون الإدارة الحكومية هي الحريصة على كرامة الموظف، والوظيفة العامة تكليف وليست تشريفا، ولذلك يبين التنظيم الرقابي المأموم إليه أهمية تحصين المال العام، والمحافظة على حرمته، وإبعاده عن الشهوات والشبهات والنزوات الشخصية، فالوظيفة أولا وأخيرا هي للوطن والمواطن، والموظف الذي تناط به الوظيفة يقوم بمهمة وطنية تستهدف البناء والتنمية لخير البلاد والعباد، ولا تستهدف بأي حال من الأحوال المصالح الشخصية للموظف على حساب المصلحة العامة .
إن أهم ما يعنى به النظام الجديد هو موضوع الذمة المالية، وبالأخص في الجهات الخدمية وأخص منها وزارات: البلديات، والصحة، والتعليم، والنقل، إضافة إلى كثير من الهيئات المستقلة مثل الجامعات، والهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، والهيئة العامة للترفيه.
والهدف من هذه الإجراءات أن يفصح المسؤولون في هذه الجهات سنويا عن علاقتهم وارتباطاتهم المالية بالمنشآت التي يديرونها ويشرفون عليها بحكم عملهم مقارنة بالتغيرات المالية التي تطرأ على أرصدتهم وممتلكاتهم وحياتهم ومعاشهم.
ولا شك أن بيانات الشفافية هي مفتاح ضبط الفسادين الإداري والمالي أو لنقل بيانات الذمة المالية، وإذا أفصح المسؤولون عن أرصدتهم وأملاكهم قبل أن يباشروا العمل في وظائفهم المكلفين بها، فإن إثبات النزاهة والشفافية سهل وميسور، حيث يتضح من خلال الفروق بين البيانات السابقة واللاحقة الموقف الصحيح للموظف.
والحقيقة إن محاربة الفسادين الإداري والمالي في هذه الأيام أصبحت مهمة يقوم بها كل دول العالم، وبالذات العالم المتقدم بعد أن أحست الحكومات بأن الفساد آفة تعرقل مشاريع التنمية والتطوير. ودعونا نكن صرحاء، فالفساد الإداري من أهم المعاول التي هدمت أركان الدول عبر مراحل التاريخ كافة، ولا سيما حينما تركت هذه الدول ذلك الفساد ينهش في أعمدتها دون أن تتحرك حكوماتها سريعا للقضاء على سرطان الفساد، ما أدى في النهاية إلى تقوض أركان الدولة العفية.
واضح أن النظام الجديد لا يتهم الذمم النقية في هذه البلاد الطاهرة، وإنما يضع آليات واضحة للشفافية يلتزم بها، ويحترمها الجميع ويحرص على تطبيقها لينقي ساحته من الشبهات، ولا سيما أن رؤية السعودية 2030 هدفها شحذ همم الإبداع في الإنسان السعودي، وبناء الشخصية السعودية ذات القدرات المخلصة الهادفة إلى قيام دولة العدل، والخير، والتنمية الشاملة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي