مشروع تطوير بحيرة الأربعين
قام وزير الشؤون البلدية والقروية المكلف ماجد الحقيل، أخيرا، بزيارة ميدانية لبحيرة الأربعين في مدينة جدة، يرافقه أمين مدينة جدة المهندس صالح التركي. وهذه الزيارة - في تقديري - من الزيارات المهمة التي يقوم بها مسؤول رفيع المستوى إلى هذا المعلم الأثري التاريخي المهم لمدينة جدة التاريخية. تأتي أهمية هذه الزيارة لأن مشروع تطوير بحيرة الأربعين يحتل مكانة مهمة عند المهندس صالح التركي، وعند كثير من مؤرخي ومثقفي هذه المدينة الثرية بتاريخها وآثارها العظيمة، وكل الناس في جدة يتطلعون منذ زمن بعيد إلى تحويل بحيرة الأربعين إلى مزار سياحي وترفيهي رفيع المستوى حتى يصبح واحدا من أهم مشاريع الترفيه والسياحة وجودة الحياة في هذه المدينة العريقة.
والحقيقة أن بحيرة الأربعين لها مكانة تاريخية عظيمة في تاريخ جدة الأثرية، حيث إن كثيرا من المؤرخين ذكروا أن سيدنا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - اغتسل فيها في 26هـ، حينما أمر بتحويل جدة إلى مرفأ لمكة المكرمة بدلا من الشعيبة، كما أن هذه البحيرة كانت مخزنا يمول حركة بناء بيوت جدة التاريخية بمادة أسمنتية فريدة، أيضا كانت هذه البحيرة مكانا للترفيه بالنسبة لأبناء جدة الذين كانوا يروحون عن أنفسهم بالسباحة في أطراف هذه البحيرة.
إن بحيرة الأربعين، لها لسان مدبب صغير يكاد يدخل في كل بيت من بيوت مدينة جدة، أي: إن كل بيت من بيوت جدة له ذكريات في هذه البحيرة، وصوت خرير الموج يناغي شبابيك البيوت، وتكاد مياهه ترتطم بأبواب بيوتها ودهاليز مبانيها، وحينما كنا أطفالا كنا نجتمع ونلملم أنفسنا ونركب أرجلنا في عصر كل يوم مخترقين حارة المظلوم ثم حارة الشام حتى نبلغ أطراف بحيرة الأربعين، وعند بحيرة الأربعين نلتفت شرقا لنرى القشلاق (الثكنة العسكرية) شامخة، ثم نستدير جنوبا فنرى البحرية (شرط جدة) تطل علينا في زهو وكبرياء. وموقعا القشلاق والبحرية يعنيان أن بحيرة الأربعين تقع تحت أمن وحماية الجيش والشرطة.
إذن بحيرة الأربعين لم تعد مجرد بحيرة، بل أصبحت معلما من معالم جدة التاريخية، ولها في ذاكرة المدينة الكثير من الذكريات، وكانت هذه البحيرة - في الأصل - بحيرة نقية تفوح من مياهها رائحة البحر وعطر المدينة، بالنسبة لمدينة جدة، كالحاجب الكثيف الذي يزين عين جدة، ويضيف إليها جمالا وبهاء، كان الأهالي يحرصون على نظافة البحيرة لأن أولادهم كانوا يتقافزون في مياهها ويعومون فيها، وكانت هذه البحيرة بمنزلة الرئة التي تتنفس منها جدة.
ولكن الشيء الذي حولها من حال إلى حال هو بناء محطة تنقية مياه الصرف الصحي.. التي اتخذت من البحيرة متكأ للتخلص من فوائض التنقية التي أضحت فيما بعد مرتعا للبكتريا والطحالب حتى ملأت الحمأة البحيرة، وباتت البحيرة خطرا على البيئة.
وأمام هذا الوضع تحركت أمانة مدينة جدة ووضعت البحيرة ضمن مشاريعها التنموية، واستطاعت بالفعل أن تحولها من بحيرة ضارة بالبيئة إلى بحيرة صديقة للبيئة، ولكن الخطوة الأهم هي الخطوة التي وقف عليها الوزير ماجد الحقيل، والمتمثلة في تحويلها إلى مزار سياحي ترفيهي يحاط بمجموعة كبيرة من الكافيهات وأماكن الترفيه والبهجة وجودة الحياة - وإذا جاز لنا أن نقارن بين هذا المعلم الحضاري ومثيله في الدول المتقدمة - حيث تعد الحكومات البحيرات ثروة قومية يجب الاهتمام بها ووضعها ضمن مشاريع الترفيه والسياحة، بل في بعض الدول المتقدمة يعدون أن كل معلم من المعالم الجمالية.. هو علامة الذوق الرفيع، ويعدون البحيرات، والأنهار، والعمران جزءا من واجهة وحضارة تلك المدن.
ولذلك يعدون أن التخلص من الموروثات الحضارية هو معالجة مرفوضة في الفكر الحضاري المعاصر، وأن إبقاء هذه الموروثات ومعالجة أوضاعها إلى الأفضل والأجمل هما الأسلوب الحضاري الأمثل. وهذا ما تقوم به أمانة مدينة جدة التي نجحت في وضع مشروع تغيير بحيرة الأربعين من موقع تراثي صامت.. إلى معلم حضاري ترفيهي سياحي يؤمه الأهالي، والزوار، والسياح.
كلنا يذكر أن المدن التي ليست لها بحيرات ولا أنهار ولا بحار هي المدن التي تسعى إلى حفر أراضيها لتزيينها بالبحيرات والجداول والأنهار.
إن البحيرات والأنهار وشواطئ البحار من النعم التي حباها الله للمدن الوسيمة، وإذا كان الإنسان قد سطا على هذه النعم بعض الوقت، فإن واجبه أن يسعى إلى إماطة الأذى عنها. وأذكر أن نهر النيل تعرض للتلوث بمياه الصرف الصحي وكان مرمى للفضلات، ولكن الحكومة المصرية تنبهت إلى الخطر المحدق بثروتها القومية، فنهضت وأنشأت وزارة للبيئة، وكان النيل على رأس قائمة مسؤوليات هذه الوزارة.
وحكومتنا الرشيدة حينما أرادت أن تعالج المياه الآسنة في بحيرة الأربعين اتخذت المنهج السليم. وتم نقل مياه الصرف الصحي التي كانت تضخ في هذه المنطقة إلى محطة المعالجة في الخُمرة. واضح مما سبق، أن جدة مثلها مثل كل مدن المملكة، تحظى باهتمام كبير من قبل المسؤولين، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز.