عبدالله مناع .. طبيب جدة وصحافي الوطن
لم تفقد الصحافة السعودية برحيل الدكتور عبدالله مناع إعلاميا روتينيا، بل طبيبا وأديبا مبدعا، الصحافي المشاكس الذي لجأ إلى الإعلام والأدب في ستينيات القرن الـ20، وكتب خلال مشواره الطويل إنتاجا غزيرا، إلى أن رحل السبت الماضي، عن عمر يناهز 82 عاما، بعد صراع مع المرض.
كان للدكتور مناع حضوره المتميز، وخلّف حراكا ثقافيا مهما، في احتكاكه بالأدباء والمثقفين والإعلاميين، وحتى المسؤولين، حيث كانت تنشر الصحف له وعنه، وعرف ببشاشته وضحكته التي كانت جزءا من شخصيته المحبوبة.
بين العروسين
ولد عبدالله مناع في حارة البحر في مدينة جدة، التي أصبحت أثرا بعد عين، وذلك يوم 15 صفر 1359، الموافق لعام 1939، وهناك نشأ يتيم الأب، وترعرع في كنف والدته وجدته، وتلقى تعليمه الأساسي إلى الثانوية، ثم ابتعث إلى مصر في عام 1957، لدراسة الطب.
هناك في مصر، اختار الراحل كلية طب الأسنان في جامعة الإسكندرية، ودرس فيها إلى عام 1962، حيث تخرج وعاد من عروس البحر المتوسط، إلى معشوقته عروس البحر الأحمر، حيث عمل طبيبا في المستشفى العام في جدة، إلى أن اختطفه الإعلام والأدب من مهنته، فتفرغ لهما، وانشغل بهما إلى أن وصل إلى منصب رئيس التحرير.
كان يرسل مقالاته، التي كشفت النقاب عن موهبة مبكرة، إلى مجلة "الرائد" الأسبوعية، إذ كان يرسلها إلى الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين، وكان مهتما بالكتابة عن الأدب خاصة، لكنه كتب أيضا في السياسة والفن والفكر والتاريخ، وأسهم خلال فترة السبعينيات في تأسيس نادي جدة الأدبي.
وفي ذروة نشوء المؤسسات الصحافية، اختير عضوا في مؤسسة "البلاد" للصحافة والنشر، ثم رشح لرئاسة تحريرها، وكان له عمود يومي على الصفحة الأولى لصحيفة "البلاد"، وانتقل لاحقا للكتابة في صحف أخرى.
في مسيرته الصحافية، أوقف مناع عن العمل أكثر من مرة، كان نقده حادا، لكنه نابع من حب لوطنه وغيرة عليه. وفي عروس البحر الأحمر، كُلف مناع بتأسيس وإصدار مجلة "اقرأ" في عام 1974، بعد أن اختير رئيسا للتحرير، وبعد ثلاثة أعوام من الإصدارات الدورية، تركها، ثم عاد إليها بعد عامين، وظل في منصبه أكثر من ثمانية أعوام، وفي عام 1998 أسس مجلة "الإعلام والاتصال"، وانطلقت بنجاح لافت، كان ينظر إليه مناع نظرة فخر واعتزاز.
عاشق جدة
لم يكن مناع مجرد إعلامي نشيط، بل مثقفا موسوعيا، وأديبا، ومهتما بالشأن العام، فقد ترأس نادي الاتحاد لفترتين، بأسلوب "الفزعة" كما كان يقول، بعد استقالة كل أعضائه، ووصفه الكاتب المصري الساخر محمود السعدني فأجاد وصفه، حينما قال عنه "عضو التنظيم السري للكلام، وإنه عندما يتكلم، يتكلم بتواضع الجبابرة ونعومة السفاحين".
كان ذلك الوصف صحيحا على رجل واسع الاطلاع، بارع في ربط الأحداث ببعضها بعضا، وتذكر تفاصيلها، الذي صقل معرفته منذ طفولته، وقرأ أثناء دراسته للعقاد وطه حسين، وكذلك الترجمات العربية للروايات العالمية، وتعلم من الصحافة المصرية في مرحلتها الذهبية، التي كان يكتب فيها أساتذة كبار، مثل توفيق الحكيم وإحسان عبدالقدوس ومحمد حسنين هيكل وآخرين.
تألم كثيرا لـ"جدة" التي أحب، وكان كثيرا ما يكتب عن آلامها ورؤيته لها، ولا سيما بعد كارثة السيول الشهيرة التي ألمت بها، وقال في لقاء صحافي حولها "إن جدة أشبه ما تكون بنجمة هوليود الراحلة مارلين مونرو، التي ظلت تعيش في تعاسة، فـ"جدة" جميلة، لكن أصحاب الجمال دائما ما يعيشون ويموتون تعساء".
مناع الأديب
كشف الطبيب الراحل في مقابلة أجرتها معه قناة "العربية" عن قصة حب اختبأت 50 عاما، كانت محور روايته "الشابة"، التي كتبها أيام دراسته الجامعية في مصر، وتوثق قصة حبه - من طرف واحد - لزميلته سميحة، وكتبها في مجلة "الرائد" السعودية، التي نشرت في تسعة أعداد من المجلة.
لم تكن الرواية سيرة ذاتية، إنما مزجت بين الحقيقة والخيال، بحسب ما قاله الدكتور مناع حين سئل عن روايته المدفونة طويلا، فقال "إن الحكاية في أصلها ترتكز على حقيقة، وفي امتدادها تعتمد على خيال الكاتب، وتستند إلى علاقة افتراضية مع زميلته، التي لم يكلمها أبدا رغم إعجابه بها في ذلك الحين".
كذلك الأمر بالنسبة إلى روايته الرومانسية "على قمم الشقاء"، التي نشرت في عام 2013، واحتضنتها المجلة قبل 50 عاما في أعدادها، وأثارت ضجة حينها، كونها تدور حول قصة حب مبتعث سعودي وفتاة مسيحية.
أما أول أعماله الأدبية، فكان كتاب "لمسات"، الذي يتضمن مجموعة من الخواطر والقصص القصيرة، طبع أثناء دراسته الجامعية، ثم ألحقه بمجموعة أقاصيص بعنوان "أنين الحيارى"، ومؤلفات كثيرة، منها "العالم رحلة"، "الطرف الآخر"، "شيء من الفكر"، "جدة الإنسان والمكان"، "إمبراطور النغم" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب في القاهرة.
حينما يغوص القارئ في كتب عبدالله مناع، يجد فيها فكرا خلاقا، وإنسانا متمكنا من مفرداته، مثل ما خطه بقلمه في كتاب "أنين الحيارى"، وفيه يقول "ولد الإنسان عاريا من كل شيء.. لا يعرف الحب ولا الألم.. ولا الطموح.. ثم تعلم الحب والحقد.. الكراهية والصفاء.. وانطلق يناضل ويكافح.. يبكي ويضحك، والأحلام تملأ رأسه وقلبه ونفسه.. وظل الحب عذابه اللذيذ.. جحيمه المستساغ.. جنته المليئة بالأشواك.. محبو الأمس من قياصرة وعباقرة.. فلاسفة وسلاطين.. مصلحين وعاريين كانوا معذبين أحيانا.. سعداء أبدا.. يطحنهم الشك.. يسعدهم الأمل.. كانوا حيارى مثلنا اليوم.. ومحبو الغد سيكونون أشد حيرة.. وعذابا.. وسعادة".
خسارة كبيرة
لم يمهل القدر الدكتور مناع طويلا ليشارك في ملتقى "قراءة النص" الـ17 الذي ينظمه نادي جدة الأدبي خلال الأشهر المقبلة، بعدما اختير شخصية الملتقى للعام 2021.
كان يحمل الراحل عضوية مؤسسة "البلاد" للصحافة والنشر، ونادي جدة الأدبي، وجمعية الثقافة والفنون في جدة، وغيرها من العضويات المهمة.
بعد أن غيبه الموت، نعاه ماجد عبدالله القصبي وزير الإعلام المكلف، وقال عبر حسابه الرسمي على "تويتر"، "رحم الله فقيد الإعلام الدكتور عبدالله مناع، أحد الرواد الذين أفنوا حياتهم لخدمة الصحافة والأدب. أحر التعازي لأسرته الكريمة ومحبيه".
صُلي على الراحل، والد سجى وعمرو وسندس وهشام، يوم الأحد، ودفن في مقبرة أمنا حواء في جدة، مخلفا خسارة كبيرة في الوسطين الصحافي والأدبي.