الجوع يؤرق أغنى دول العالم .. تنامي ظاهرة «الثلاجة المجتمعية» في أمريكا

الجوع يؤرق أغنى دول العالم .. تنامي ظاهرة «الثلاجة المجتمعية» في أمريكا

خلال الفترة التي تفشى فيها وباء كورونا بقوة في أمريكا، صدمت صور آلاف الأشخاص المصطفين أمام بنوك الطعام في الولايات الأمريكية المختلفة الكثيرين.
وبالنسبة إلى البعض لا تستقيم تلك الصورة مع مليارات الدولارات التي تقدمها الولايات المتحدة مساعدات إنسانية لعديد من الشعوب الفقيرة كل عام، بينما يقف أبناؤها في انتظار من يقدم لهم المساعدة الغذائية.
وحتى اليوم، ومع تراجع حدة الوباء في الولايات المتحدة، فإن ما بات يعرف بظاهرة "الثلاجة المجتمعية"، في تنام متواصل، والثلاجة المجتمعية مفهوم موجود في الولايات المتحدة منذ عقد تقريبا، حيث يقوم بعض الأشخاص من القادرين بوضع ثلاجة خارج منزله أو بالقرب من أحد المطاعم، وتكون مليئة بأنواع مختلفة من الأطعمة التي تقدم مجانيا لأي شخص فقير وجائع، مع تذكير دائم لكل راغب في أخذ شيء منها، أن يأخذ ما يحتاج إليه فقط، وأن يراعي احتياجات الآخرين، وبالطبع المحافظة على نظافة الثلاجة دائما.
باختصار، إنه نوع من أنواع العمل الخيري والإنساني، ولكن على عظمة هذا السلوك، فإن "الثلاجات" لن تستطيع بلا شك حل مشكلة "انعدام الأمن الغذائي" أو "الجوع" في الولايات المتحدة. فالأعداد أكبر من قدرة تلك المبادرات الفردية على حلها، والمشكلة أعمق من أن تحل عبر العمل الخيري فقط على الرغم من أهميته.
ووفقا للتقديرات الأمريكية الرسمية، فإن هناك 20 مليونا من البالغين لا يحصلون على ما يكفي من الطعام، و42 مليونا آخرين لا يستطيعون دائما شراء أنواع الطعام التي يرغبون فيها.
وارتفاع أسعار المواد الغذائية التي تستهلك بشكل يومي، كالخبز والحليب والأجبان والبقوليات، إضافة إلى اللحوم، يؤدي إلى ضغط متزايد على العائلات الكبيرة التي تنتمي إلى الشرائح الفقيرة في المجتمع.
ووفقا لمكتب الإحصاء الأمريكي، فإن بعض المجموعات الأمريكية تعاني مستويات جوع عالية بشكل كبير: الأمريكيون السود بنسبة 15 في المائة، والأمريكيون من أصل إسباني 16 في المائة، والأمريكيون الحاصلون على شهادة الثانوية العامة فقط 24 في المائة.
وربما الغريب والأكثر خطورة، هم الأمريكيون الذين يعملون في الحرس الوطني أو الاحتياطي بنسبة 20 في المائة، وزوجاتهم، بنسبة 29 في المائة.
لكن إحصاءات منظمة المجتمع المدني التي تتابع قضايا الفقر والجوع تختلف عن الأرقام الرسمية، فوفقا لتقديرات تلك المنظمات كان هناك قبل انتشار فيروس كورونا 35 مليون شخص جائع في الولايات المتحدة، من بينهم أكثر من عشرة ملايين طفل، وقد أدى انتشار وباء كورونا إلى أن يعاني أكثر من 42 مليون شخص، من بينهم 13 مليون طفل، انعدام الأمن الغذائي، ومن المرجح أن يكون الأطفال الفئة الأكثر تضررا مقارنة بأي فئة أخرى.
هذا الوضع المقلق دفع الكونجرس الأمريكي منذ كانون الأول (ديسمبر) الماضي إلى زيادة المساعدات المقدمة للعاطلين عن العمل، كما زادت قسائم الطعام، وسمح التطعيم على نطاق واسع إلى تنشيط الاقتصاد وتوفير فرص عمل لأكثر من تسعة ملايين عاطل.
وفي الواقع، فإن مشكلة الجوع أو انعدام الأمن الغذائي في الولايات المتحدة، جزء من معركة أكبر وأكثر شراسة، وهي معركة أمريكا مع الفقر وغياب العدالة في توزيع الثروة، وضعف شبكة الأمان الاجتماعي التي تقدمها الدولة للمجتمع.
تقول لـ"الاقتصادية"، الدكتورة ليديا موريس أستاذة مادة الرفاهية الاجتماعية في عدد من الكليات البريطانية، "حرب أمريكا مع الفقر حرب قديمة، ففي عام 1964 أعلن الرئيس ليندون جونسون، الحرب على الفقر، وفي أول خطاب له عن حالة الاتحاد قال إنه لا يمكن لأغنى دولة على وجه الأرض أن تتحمل خسارة تلك المعركة، لكن أمريكا حتى اليوم لم تنتصر تماما في تلك المعركة، أحيانا تحقق تقدما في بعض الجبهات أو اختراقات في جبهة ما، لكن الحرب ككل وبعد ستة عقود من بدايتها لم تفز بها أمريكا حتى اليوم".
وتشير الدكتورة ليديا موريس إلى جانب مهم عند الحديث عن الفقر في الولايات المتحدة كمدخل لفهم ظاهرة الجوع أو انعدام الأمن الغذائي بالقول، "يتم تعديل خط الفقر في الولايات المتحدة سنويا، لكن التعريفات السائدة في المفاهيم الحكومية الرسمية الأمريكية للفقر قديمة وغير دقيقة، وأغلبها صمم في الستينيات".
وتضيف "تزداد القضية تعقيدا إذا أخذنا في الحسبان الفجوة الهائلة بين الأرقام الرسمية وقناعات المواطنين بشأن الحد الأدنى للفقر، فوفقا للأرقام الرسمية لعام 2019 كان خط الفقر للعائلة الأمريكية 26172 دولارا، أي العائلة التي تحصل على هذا الدخل سنويا لا تنتمي إلى العائلات الفقيرة، ولا تحصل على مساعدات أو قسائم الطعام".
وتقول "في الوقت ذاته، كانت استطلاعات الرأي للمواطنين في عام 2013 تشير إلى أن أصغر مبلغ من المال تحتاج إليه أسرة مكونة من أربعة أفراد لتكون عند حد الفقر، 58 ألف دولار سنويا، ومن ثم فإن الأرقام الرسمية بأن عدد الفقراء في الولايات المتحدة وصل إلى 34 مليون نسمة عام 2019 يبدو رقما متحفظا بالنسبة إلى البعض، كما أن ما يقارب 45 في المائة من هؤلاء الفقراء يعيشون في فقر مدقع، أي يعيشون على أقل من نصف خط الفقر الرسمي".
مع هذا لا يجب غض الطرف عن تحقيق الولايات المتحدة نجاحات في معركتها ضد الفقر، فقد انخفضت معدلات الفقر من أعلى مستوى لها في خمسينيات القرن الماضي عندما بلغت 22 في المائة إلى ما يراوح بين 10.5 في المائة عام 2019، بينما تشير بعض التقديرات إلى أن العام الماضي، ونتيجة ارتفاع معدلات البطالة بسبب وباء كورونا، فإن نسبة الفقر بلغت 17.3 في المائة في آب (أغسطس) الماضي، وانخفضت بعد شهرين إلى 16 في المائة.
من جهته، يؤكد لـ"الاقتصادية"، بيل أندرسون الباحث الاقتصادي في قضايا الفقر، أن الفقر بالنسبة إلى معظم الأمريكيين هو، صورة العائلات في مساكن متهالكة في المدن الكبرى، مع ذلك فالوجه الحقيقي للفقر موجود في المناطق الريفية الجنوبية والجنوبية الغربية حيث تتدهور ظروف المعيشة بشكل أكبر.
وحول أسباب الفقر، يشير إلى أن بعض الأسباب تعود إلى عوامل تاريخية، إذ إن الجذور الأوروبية للولايات المتحدة تأتي من الدول التي كان لديها تفاوت كبير بين الطبقة الحاكمة الصغيرة وعامة الشعب، كما كان الأمر في المملكة المتحدة على سبيل المثال، وعلى الرغم من أن إعلان الاستقلال عام 1776 أظهر التطلع إلى المساوة، إلا أن ذلك لم يتحقق.
ومن بين تلك الأسباب ما يعرف بدائرة الفقر، حيث تميل الأسر الفقيرة إلى الحصول على قدر أقل من التعليم، وتتعرض لمشكلات صحية أكبر، ومن ثم تؤدي إلى إنتاج أجيال من الفقراء، حيث يتم توارث الفقر كما يتم توارث الثراء.
ويشير بيل أندرسون إلى أن معدلات التخرج من المدارس الثانوية للطلاب الأمريكيين من أصل إفريقي أو إسباني أقل بنحو 20 في المائة من المجموعات العرقية الأخرى، يضاف إلى ذلك انتشار أعلى للأمراض الحادة والمزمنة لدى المجموعات الفقيرة، ما يعوق قدرتها على العمل، فمتوسط العمر لأغنى 1 في المائة في الولايات المتحدة أطول بنحو 14.6 عاما من أفقر 1 في المائة للرجال، و10.1 عاما للنساء.
لكن العديد من الدراسات تلقي باللائمة على عدم نجاح الجهود الأمريكية في القضاء على الفقر تماما في أغنى دولة في العالم، إلى عدم العدالة في توزيع الثروة وعدم نجاعة النظام الضريبي المليء بالثغرات التي تمكن الفئات الثرية من عدم دفع المستحقات الضريبية واجبة السداد.
وهناك مخاوف حقيقية من وجود دلائل على أن الحراك الاقتصادي الأمريكي والارتقاء في سلم الدخل آخذ في الاختفاء، إذ تقلصت نسبة الأمريكيين الذين يكسبون أكثر من آبائهم من 90 في المائة ممن ولدوا في الأربعينيات إلى 50 في المائة ممن ولدوا في الثمانينيات.
من هذا المنطلق، يرى البروفسير جاري لرسن أستاذ الاقتصادي الاجتماعي في جامعة ليدز، أن القوى الاقتصادية طويلة الأجل تلعب دورا في تعزيز عدم المساواة وزيادة عدد الفقراء في الولايات المتحدة.
ويقول لـ"لاقتصادية"، "لا يمكن إرجاع مشكلة الفقر لسبب واحد، فمثلا تراجع قوة النقابات، وهذا يرتبط بالعولمة وعوامل أخرى، أضعف أجور الطبقة العاملة، وجعل مستوياتها أقل من الطبقات الأخرى، ومن ثم زادت معدلات الإفقار داخل الطبقة العاملة، والسياسة التجارية حتى الأتمتة، جميعها لعبت أدوارا بنسب مختلفة في عدم انتصار أمريكا على الفقر".
ويضيف "لكن تخفيض أعلى معدلات ضرائب الدخل في الولايات المتحدة مرارا وتكرارا على مدار 50 عاما الماضية، أسهم في زيادة عدم المساواة، حيث تراجعت ضريبة دخل الشركات بشكل مطرد كحصة من أرباح الشركات وكنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، وانخفضت ضريبة رأس المال التي تفرض بيع الأصول، بما في ذلك الأسهم والأراضي والقطع الفنية".
وربما يؤكد هذا التفسير أن الجهود الحكومية للقضاء على الفقر ستظل رأس الحربة في تلك المعركة، وذلك عبر نظم ضريبية أكثر عدالة وفاعلية عند التطبيق، مع ضرورة دعم العمل الخيري والإنساني لإيجاد مجتمع أكثر عدالة وتلاحما.

الأكثر قراءة