الحواسيب الكمية .. إثبات المستحيل

تتطلب دراسة أو نمذجة بعض الظواهر الطبيعية، أو التنبؤ ببعض العمليات الفيزيائية أو التفاعلات الكيميائية قدرات حاسوبية هائلة لمحاكاة تلك الظواهر أو العمليات. ومع وجود عديد من الحواسيب فائقة الأداء supercomputer ذات القدرات الهائلة في معالجة البيانات بسرعات عالية ودقة متناهية، إلا أنها تظل عاجزة عن التعامل مع عمليات معقدة، مثل احتساب أفضل المسارات لحركة السفن المخصصة للشحن والعمليات اللوجستية المرتبطة بها. غالبا لا تستطيع الحواسيب التقليدية إجراء تلك الحسابات إلا بعد تبسيط تلك العمليات أو وضع فرضيات رياضية تحتمل الخطأ.
ولحل معضلة التعامل مع العمليات الحاسوبية المعقدة، ظهر ما يعرف بالحواسيب الكمية التي تعتمد في طريقة معالجتها للبيانات على فيزياء الكم التي تختلف جذريا عن آلية معالجة البيانات وإجراء العمليات الرياضية في الحواسيب التقليدية. في الحاسوب التقليدي، القلب النابض هو المعالج المركزي ويجري ملايين أو مليارات العمليات الحسابية في الثانية، يعتمد على النظام الثنائي في تكوين الإشارات الكهربائية التي تترجم إلى قيمة الواحد أو الصفر. هذا النظام الثنائي يقف عائقا في إجراء عمليات حاسوبية معقدة كالتي تتطلب تعاملا مع كم ضخم من البيانات، بسبب محدودية القدرة على إجراء عمليات رياضية متزامنة مع وجود متغيرات تتجاوز أعدادها البلايين.
استطاعت فيزياء الكم التي هي أساس عمل الحواسيب الكمية أن تعطي توصيفا أو تفسيرا للجسيمات الفيزيائية الصغيرة مثل الذرة، وتتنبأ بحالة تلك الجسيمات أو موقعها بواسطة علم الاحتمالات. فالجسيمات الفيزيائية الصغيرة تتعدد حالاتها سواء المكانية أو الحركية، وبفضل نظريات فيزياء الكم يمكن تعيين تلك الحالات لتشكل أصغر جزء في سلسلة الأوامر أو العمليات الحسابية. فعوضا عن حالتي الواحد والصفر في النظام الثنائي تصل حالات الجسيمات التي يطلق عليها qubits إلى أضعاف مضاعفة في ظل خاصية التماسك أو الترابط الفيزيائي بين تلك الجسيمات.
وفي بداية القرن الـ 20 شكك عدد من الفيزيائيين في المقدرة على إثبات نظرية فيزياء الكم من الناحية التجريبية وأنها غير قابلة للإثبات العملي. لكن مع إنتاج شركة آي بي إم IBM لـ 20 حاسوبا كميا فإن هذه الشكوك تبددت. وقد نفذت الشركة حاسوبها الكمي الأول خارج الولايات المتحدة لمصلحة معهد فرانهوفر الألماني للأبحاث هذا العام. كما أتاحت استخدام حواسيبها الكمية عبر سحابة IBM بشكل مجاني للمطورين والمبرمجين على مستوى العالم. أما بالنسبة لحجم حاسوبها الحديث فهو مقارب لحجم ثلاجة منزلية، تحيط به دوائر مصنوعة من مواد فائقة التوصيل وموضوعة في غرفة عالية التبريد (قريبة من درجة التجمد)، تسمح بها قوانين فيزياء الكم.
كما تسعى شركة جوجل لتطوير قدراتها في مجال الحواسيب الكمية والمنافسة فيها تجاريا عبر استحداث برامج بحثية خاصة، كبرنامج الذكاء الاصطناعي الكمي. أما على صعيد الإطلاق التجاري، فيتوقع معظم الشركات الكبرى نضج الحواسيب الكمية من الناحية التقنية بحلول عام 2029، ما سيؤهلها لدخول الأسواق بشكل تجاري.
ومن المشاريع الكبرى التي تعول على أداء الحواسيب الكمية وقدراتها الفائقة، المشروع المشترك بين مرسيدس بنز وشركة آي بي إم لتطوير بطاريات الليثيوم أيون المستخدمة في السيارات الكهربائية. حيث يعمد المشروع إلى نمذجة وتحليل التفاعلات الكيميائية داخل ذلك النوع من البطاريات لغرض تطويرها وزيادة كفاءتها التي لا تستطيع الحواسيب التقليدية أن تنفذ ذلك النوع من العمليات المعقدة بكل تفاصيلها. من المرتقب أن تفتح الحواسيب الكمية آفاقا جديدة لاستكشاف مزيد من الظواهر الطبيعية، وسبر أغوار العلوم التي لم تكن ممكنة بسبب قصور الحواسيب التقليدية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي