احتدام التنافس التقني ونتائجه
بعد انقضاء حقبة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ساعدت العولمة وانفتاح الأسواق على توسع كثير من الاستثمارات الصناعية المملوكة للدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة في الصين. فانخفاض أجور اليد العاملة الصينية ومرونة الأنظمة البيئية كالحد من انبعاث الكربون وغيرها شجعت على إقامة مصانع تلك الدول على الأراضي الصينية. وإن كان معظم تلك الصناعات ذات طابع منخفض إلى مستوى متوسط من التعقيد التقني، إلا أنها أسهمت بشكل كبير في انتقال عديد من التقنيات الأساسية للصين. والأهم من ذلك استفادة الصين من الانفتاح على شبكة سلاسل الإمداد الصناعية العالمية على اختلاف فئاتها، ما مكنها من الولوج لنظام الاقتصاد العالمي.
وفي عبارة مشهورة تنسب للفيلسوف الصيني لاوتزو يقول فيها: "لا توجد خطورة أكبر من التقليل من شأن خصمك". وبهذا الصدد، ذكرت مجلة "التايم" الأمريكية قبل 30 عاما في عددها المعنون: "ما بعد الـ 2000" أنه "لا يمكن للصين أن تنمو لتصبح عملاقا صناعيا في القرن الـ 21. فعدد سكانها كبير جدا، وناتجها المحلي الإجمالي صغير جدا" أي: في ذلك الوقت. إن التقدير الخاطئ للمآلات أو لمكامن القوة والضعف للخصم قد يتسبب في تكاليف باهظة في المستقبل لا يمكن الحيد عنها. وعلى وقع الأزمة المالية العالمية عام 2008 التي تأثر فيها الاقتصاد الأمريكي والأوروبي تأثرا بالغا، حافظت الصين على نمو ثابت في اقتصادها وتطورها التقني والعلمي، ما أسهم في تقليص الفجوة بينها وبين الولايات المتحدة المهيمنة اقتصاديا وتقنيا.
ولكبح هذا التقدم المطرد للمارد الصيني بدأت الولايات المتحدة باستحداث بعض السياسات والقوانين للحد من التغول الصيني في السوق الأمريكية، ولحماية الميزة التنافسية التقنية للشركات الأمريكية. فعلى سبيل المثال، قامت الإدارة الأمريكية خلال العقد الماضي بعدد من الخطوات لحماية المشاريع والشركات عالية التقنية الأمريكية. حيث منعت الولايات المتحدة الشركات الصينية من الاستثمار في شركات أشباه الموصلات الأمريكية، كما قيدت وصول الشركات الصينية إلى التقنيات الأمريكية عبر الشراكات التجارية. وبتقدم الصين الملحوظ في قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات والاستثمار البحثي والعلمي في تلك المجالات، فرضت الولايات المتحدة قيودا على كبرى شركات الاتصالات الصينية مثل "هواوي" لتقديم خدماتها أو بيع منتجاتها داخل السوق الأمريكية، خصوصا الجهات المرتبطة بالحكومة الفيدرالية.
ومع تقدم الصين العلمي والتقني، خصوصا في التقنيات الجوهرية للقرن الـ 21، كالذكاء الاصطناعي أو الجيل الخامس من الاتصالات أو الاتصالات الكمية quantum communications، وبتواز مع إنفاق مالي كبير على مشاريع البحث والابتكار في تلك المجالات، تمكنت الصين من التقدم في تلك التقنيات بشكل متصاعد. فمعظم الإشارات تشير إلى سباق الصين المحموم نحو مزيد من التطوير والاستثمار في التقنيات ذات الأولوية في القرن الـ 21، سواء من ناحية النشر العلمي أو حجم الإنفاق في مجال البحث والابتكار التقني. ويؤيد هذه المشاهدات إشارة الرئيس الصيني شي جين بينج إلى أن ساحة المعركة الحديثة هي الابتكار التقني، مشددا على ضرورة بناء القدرات المحلية ومواصلة التطوير في التقنيات الناشئة، وعدم الاعتماد على التقنية الأجنبية.
وفي تقرير صدر هذا الشهر من كلية كينيدي في جامعة هارفارد يسلط فيه الضوء على احتدام التنافس بين القوتين الاقتصاديتين، الولايات المتحدة والصين، خلال الـ 20 عاما الماضية في أهم تقنيات القرن. حيث أشار التقرير إلى تفوق الصين في تقنيات الذكاء الاصطناعي بالنظر إلى عدد الاقتباسات العلمية أو حتى عدد البراءات المسجلة في هذه التقنيات. كما تتمتع الصين حاليا بأكبر شبكة اتصالات من الجيل الخامس، ممكنة عديدا من التطبيقات التجارية والعسكرية. كما قللت الصين الفجوة مع الولايات المتحدة في علم المعلومات الكمي الذي تندرج تحته الاتصالات الكمية، إضافة إلى التقدم التقني في أشباه الموصلات وتقنيات الطاقة الخضراء. فهل ستزيح الصين الولايات المتحدة من عرش الهيمنة التقنية قريبا؟ هذا ما سيكشفه المستقبل.