المعرفة .. طيف من العلوم المفيدة
كان لي زميل أكاديمي من العالم الغربي مختص في الهندسة، يكرر قولا أصبح معروفا أنه سيقوله، كلما وجد أمامه فرصة سانحة لذلك، والقول هو: "فيما عدا العلوم ذاتها، ليست هناك علوم في أي حقل آخر، ولو سمي علوما". وكان يقصد بذلك العلوم الإنسانية، وغيرها. وكان يعد الهندسة والتقنية والرياضيات، إفرازات للعلوم، فالهندسة والتقنية علوم تطبيقية، والرياضيات لغة لتداول العلوم بأسلوب فكري منظم. كان محقا بشأن إفرازات العلوم، والوحدة الرباعية "العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات" التي تحدثنا عنها في المقالات الثلاثة السابقة، لكنه لم يكن كذلك بشأن العلوم الأخرى.
إذا بحثنا في المراجع اللغوية الإنجليزية نجد أن أحد تعريفات كلمة علوم Science، يقول إن المقصود هو "المعرفة أيا كانت". وإذا انتقلنا إلى المراجع اللغوية العربية، نجد أن أحد تعريفات كلمة علم يقول إنه "إدراك المرء الأمور على حقيقتها"، كما يقول تعريف آخر: إنها "المعرفة". وعلى ذلك، فإن كل معرفة علوم. وهنا لا بد من التأكيد أن المعرفة أيا كان مجالها، يجب أن تقترن بالدليل، فإن لم تقترن به، فهي ليست معرفة، وليست علوما. والدليل المطلوب للمعرفة يأتي إما كحقيقة تفرزها الظواهر والتجارب، وتجعلها أمرا واقعا، أو خلاصة لمحاكمة عقلية منطقية تحمل إثباتا لمضامينها، أو ربما الاثنتين معا. وعلى هذا الأساس، فإن كل معرفة علم، طالما أنها مثبتة بالدليل عبر الملاحظة والتجربة، وعبر نور المحاكمة العقلية والتفكير أيضا. وهكذا يصبح بإمكاننا وصف أي معرفة في أي موضوع أو مجال بأنها علم. وعلى هذا الأساس فإن المعرفة في المجال الإنساني بل في أي مجال آخر، يمكن أن تحمل وصف علم، أو وصف علوم، تبعا لمدى تشعباتها.
عندما نقول علوم دون وصف مرفق فنحن نقصد العلوم الطبيعية، أي: العلوم غير العضوية، والعلوم الحيوية، بل حتى العلوم الاجتماعية، تبعا لتعريف العلوم في الموسوعة البريطانية، كما ذكرنا في مقال سابق. وإذا قلنا علوم ووصفناها على سبيل المثال بالتطبيقية، فالمعنى هو الهندسة والتقنية. وأي علوم غير ذلك يجب أن تأتي حاملة صفة موضوعاتها، كوصف العلوم بالإنسانية، أو ربما أي صفة أخرى. وليس من حق زميلنا الأكاديمي، سابق الذكر، أو أي شخص آخر أن يستبعد فكرة العلم عن أي موضوع من الموضوعات بل عليه أن يبحث في فوائد كل علم، في إطار تكامل كل المعارف والعلوم، وتوجهها نحو خدمة الإنسان، وتحقيق رفاهيته، إن هي استخدمت الاستخدام المناسب. صحيح أن رباعية "العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات"، كانت وراء الثورات الصناعية، والتقدم الذي شهده العالم، ويشهد مزيدا منه أيضا، لكن الصحيح أيضا هو أن الإنسان يحتاج إلى باقة ملونة من معارف الحياة، لأن كل معرفة يكتسبها تحمل له ليس الارتقاء الشخصي فقط، بل التفاعل مع مختلف جوانب الحياة، ومعطياتها غير النهائية أيضا.
سنطرح، فيما سيأتي من هذا المقال الطيف الواسع لموضوعات المعرفة وتأكيد حاجة البشر إليها جميعا، لأنها أساس نابع منهم، بما وهبهم الله من عقول مفكرة، ومنحهم معطيات الطبيعة من حولهم. ويضاف إلى ذلك التأكيد أيضا على حاجتهم، خصوصا التوجه نحو رباعية "العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات"، من أجل دفع مسيرة التقدم والتنمية إلى الأمام، وربما الاستفادة من العلوم الأخرى في تعزيز هذا التوجه، ودفعه إلى الأمام.
كان ميلفل ديوي Melvil Dewey، الذي عاصر جزءا من كل من القرنين الـ 19 والـ 20، من أشهر من عمل على تعريف طيف المعرفة، بغاية تصنيفها، والمساعدة على تنظيم المكتبات، وقد أصبح من خلال ذلك رئيسا لهيئة المكتبات الأمريكية ALA. وقد شمل تعريف ديوي للمعرفة وضعها في عشرة أقسام رئيسة عرفت "بتصنيف ديوي العشري DDC". وقد حرص ديوي على تفريع كل قسم رئيس من الأقسام العشرة إلى فروع متعددة تستوعب جوانبه المختلفة. ولا ترتبط هذه الفروع بالمعرفة التي كانت في عصره فقط، بل تخضع أيضا لتطورات المعرفة في أقسامها المختلفة عبر الزمن. وقد حفظت هذه المرونة لتصنيف ديوي مكانة خاصة في تنظيم المكتبات، حيث يعد التصنيف المعتمد في معظم مكتبات العالم، وما يعزز ذلك وجود تحديث دوري لتفرعات أقسامه يستوعب مستجدات المعرفة، ويواكب تطوراتها.
تبدأ تصنيفات ديوي العشرة بقسم "المعارف العامة"، وهو القسم الذي تفرع مع التقدم العلمي في العصر الذي نعيشه ليستوعب علوم الحاسوب وتطوراته، وتطبيقاته التي انتشرت في شتى مجالات الحياة. ويأتي القسم الرئيس الثاني في تصنيف ديوي ليطرح معارف الفلسفة وعلم النفس. ثم تبرز العلوم الدينية في القسم الثالث، وتليها العلوم الاجتماعية في القسم الرابع فعلوم اللغات في القسم الخامس. ويحمل القسم السادس موضوعات العلوم والرياضيات، ويركز القسم السابع على العلوم التطبيقية التي تشمل كل ما لدى الإنسان من معرفة في موضوعات الهندسة والتقنية، عدا بعض موضوعات الحاسوب التي تنتمي إلى القسم الأول -قسم المعارف العامة-، وهناك بعد ذلك موضوعات الفنون في القسم الثامن، والآداب في التاسع، وأخيرا موضوعات التاريخ والجغرافيا والتراجم في القسم العاشر.
لا شك أننا جميعا نحتاج إلى المعرفة، وبالذات إلى باقة ملونة منها تضم ورودا وأزهارا من مجالاتها المختلفة. فلكل مجال فوائد يجنيها الإنسان، وفي كل مجال متعة ينعم بها الإنسان، تبعا لمواهبه وهواياته. وليس الأمر كذلك فقط، بل إن المطلوب من الإنسان أيضا أن يسعى إلى التعمق في مجال واحد، وربما أكثر من مجالات المعرفة، ويسعى إلى الإبداع والابتكار فيه، وتقديم معطيات معرفية غير مسبوقة. وإذا كنا نود التركيز على رباعية "العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات" من أجل الإسهام في منجزات العصر التقنية، والعمل على الاستفادة منها في التنمية الاقتصادية، فإن علينا ألا نهمل معارف المجالات الأخرى وعلومها، لأن التنمية ليست اقتصادية فقط، بل تشمل شتى مجالات الحياة.