ماذا عن الابتكار في إدارة الأعمال؟
عندما نذكر إدارة الأعمال، يبرز تساؤل حول المؤهلين في هذا المجال المهم، فالأعمال المطلوبة تعطي منجزات مفيدة تستهدف ليس بالضرورة الأرباح فقط، والإسهام في التنمية الاقتصادية، بل خدمة المجتمع أيضا، والإسهام في التنمية الاجتماعية. ولا شك أن النجاح في إدارة الأعمال، وتحقيق غاياتها المرجوة، يتطلب شخصيات مؤهلة تعرف كيف تنفذ مهمات هذه الإدارة بأفضل صورة ممكنة للوصول إلى أفضل النتائج. ولعل من أهم برامج التأهيل في هذا المجال، البرامج التي تقود إلى درجة "الماجستير في إدارة الأعمال MBA"، حيث تتنافس الجامعات في تقديم مثل هذه البرامج، وجذب الشباب إليها، وتأهيلهم بما يلزم من القدرات.
هناك ملاحظتان مهمتان بشأن هذه الدرجة الجامعية. تقول الملاحظة الأولى إن هذه الدرجة، هي درجة دراسات عليا، ولا بد للمتقدمين لبرامجها من حمل درجة البكالوريوس، لكن موضوع هذه الدرجة لا يكون بالضرورة في إدارة الأعمال، كما هو الحال بالنسبة إلى المتقدمين إلى برامج درجات الماجستير الأخرى، بل في الأغلب ما يكون في موضوعات مختلفة. وهناك بالطبع سبب لذلك، فعلى سبيل المثال، يحتاج المهندس بعد فترة من عمله، وعند وصوله إلى منصب متقدم، إلى مهارات إدارية، لم يدرسها في مرحلة البكالوريوس في الهندسة، وهذا ما يؤدي إلى توجهه نحو دراسة "ماجستير ريادة الأعمال" من أجل اكتساب هذه المهارات، وقس على ذلك في التخصصات المختلفة الأخرى.
ونأتي إلى الملاحظة الثانية التي تهتم بتشعب جوانب إدارة الأعمال، حيث تعطي درجات الماجستير في إدارة الأعمال فرصا، ليس فقط لدراسة إدارة الأعمال بإطارها العام، بل للتركيز أيضا في جانب من جوانبها المختلفة. وتحرص الجامعات على إتاحة فرص الاختيار للطالب بين دراسة إدارة الأعمال بطيفها العام من جهة، وبين دراستها موجهة إلى إدارة تخصصية محددة من جهة أخرى. وكثيرا ما يتكون برنامج ماجستير إدارة الأعمال من ثلاث مجموعات من المقررات، مقررات أساسية للجميع، ومقررات تخصصية في موضوع التخصص المطلوب، ثم مقررات حرة تضيف مزيدا إلى ما سبق. وتشمل المقررات التخصصية عادة موضوعات، مثل: الإدارة المالية، الإدارة الصحية، إدارة شؤون العاملين، المحاسبة، وغير ذلك.
يطرح هذا المقال تساؤلا مهما يقول: "أين إدارة الابتكار" في تخصصات إدارة الأعمال؟ وتأتي أهمية هذا التساؤل من حقيقة تزايد أهمية الابتكار في مؤسسات الأعمال المختلفة، من أجل المحافظة على تميزها، واستدامة عملها، ودورها التنموي، في بيئة التنافس التي يشهدها العالم في شتى المجالات. ويكتسب هذا التساؤل أهمية مضافة مع ما تقوم به حاليا، منذ 2019، "هيئة المعايير الدولية ISO"، من عمل على وضع معايير وإرشادات تختص بإدارة الابتكار في المؤسسات. وغاية هذه المعايير والإرشادات هي مساعدة المؤسسات العاملة في مختلف المجالات، على تفعيل الابتكار في مخرجاتها، بما يعزز قدراتها، ويدعم تميز مخرجاتها. وتجدر هنا ملاحظة حقيقة أن هذه المعايير والإرشادات تقدم مادة معرفية يمكن الاستفادة منها في تخصص إدارة الابتكار المأمول في ماجستير إدارة الأعمال.
التساؤل أعلاه لم يأت مني، بل طرحه الزميل العزيز الدكتور زهير آل طه، في نقاش بيننا، بعد أن شاركنا معا في عضوية لجنة الابتكار في الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة، حيث كانت اللجنة معنية بالمعايير والإرشادات الدولية الخاصة بإدارة الابتكار. والملاحظة التي رافقت هذا التساؤل هي وجود جامعات أجنبية وضعت تخصص إدارة الابتكار في ماجستير إدارة الأعمال، أو ما يكافئها، حتى قبل 2019، وعدم وجود جامعات سعودية أخذت ذلك في الحسبان بعد. والأمل الذي رافق هذا التساؤل أيضا هو أن تكون هناك بداية لمثل ذلك في المستقبل القريب. ولعل من المناسب هنا، تقديم تعريف بالمضامين الرئيسة لإدارة الابتكار، من أجل بيان صورتها العامة. ويمكن في سبيل ذلك الاستعانة بمعايير وإرشادات "هيئة المعايير الدولية ISO"، في هذا المجال، وتعرف هذه المعايير والإرشادات "بسلسلة ISO 56000".
تطرح "هيئة المعايير الدولية ISO" معايير وإرشادات "سلسلة ISO 56000" المتخصصة في إدارة الابتكار من خلال عدة وثائق، أغلبها تم صدوره، وبعضها لا يزال قيد الإعداد. هناك وثيقة أساسية تبين أسس إدارة الابتكار، وتعطي تعريفات لـمصطلحات هذه الإدارة، حرصا على وضوح نصوص جميع الوثائق في السلسلة. وهناك وثيقتان تعرفان بنظام إدارة الابتكار، وتحديد متطلباته، إضافة إلى طرح منهجية تنفيذ هذه الإدارة، ابتداء بدراسة الحالة الراهنة، والتخطيط لمهمات العمل المطلوب، وانتهاء بالتحسين والاستفادة من الابتكار. بعد هذه الوثائق، تهتم كل من الوثائق التالية بمهمات محددة في إدارة الابتكار.
هناك وثيقة تهتم بالتعاون والشراكة في الابتكار بين المؤسسة المعنية وجهات خارجية، مثل تعاون أي مؤسسة في القطاع الصناعي مع جامعة من الجامعات المهتمة بالبحث العلمي في مجالها. وهناك وثيقة تهتم بمتطلبات تقييم إدارة الابتكار، وإجراءات تنفيذ هذا التقييم، إضافة إلى وثيقة أخرى تركز على وضع مقاييس للتقييم. ثم هناك وثيقة تختص بشؤون حماية الملكية الفكرية، وأخرى تهتم بإدارة الذكاء الاستراتيجي الذي يركز على متطلبات المؤسسة وتطلعاتها المستقبلية، وثالثة تنظر في موضوع إدارة شؤون الأفكار في المؤسسات.
تحدد وثائق إدارة الابتكار في المؤسسات ثمانية أسس لهذه الإدارة. وتشمل هذه الأسس: إدراك المؤسسة قيمة الابتكار، دور قيادة المؤسسة في تفعيل إدارة الابتكار، التوجه الاستراتيجي للمؤسسة بشأن الابتكار الذي يجب أن يلتزم به الجميع، ثقافة الابتكار والتجديد لدى العاملين في المؤسسة، تفعيل الشراكة المفيدة داخليا وخارجيا، فهم المخاطر على المبتكرات والعمل على معالجتها، التكيف مع هيكل المؤسسة ووظائفها، إضافة إلى العمل على تطبيق معايير وإرشادات إدارة الابتكار المحددة في وثائق هيئة المعايير الدولية ISO.
ليست إدارة الابتكار في المؤسسات غاية، بل هي وسيلة لتفعيل الابتكار واستمراره فيها. وليس الابتكار ذاته غاية، بل هو وسيلة لغاية مهمة هي التنمية، وبالذات التنمية المستدامة التي تحفظ للمؤسسات وجودها، وتعزز توسعها. وعلى ذلك، نحتاج إلى اهتمام أكبر بإدارة الابتكار في دراسات إدارة الأعمال.