الاقتصاد السلوكي بين العقل والمشاعر

بناء على تعاريف دولية، ذكرنا في مقال سابق أن الاقتصاد يشمل "أدوات"، ويتضمن "نشاطات"، ويسعى إلى تحقيق "غايات". الأدوات عموما، هي المال، والقدرات البشرية، والأجهزة التقنية، والمؤسسات، وإرادة العمل. أما النشاطات فتتضمن إنتاج السلع وتقديم الخدمات، إضافة إلى نشاطات السوق والبيع والشراء. ثم تأتي الغايات التي تشمل تنفيذ النشاطات بأداء مرتفع، وبأقل التكاليف، والعمل على الربح وتوليد الثروة وتحقيق التنمية الاقتصادية، إضافة إلى تشغيل اليد العاملة. وليست الغايات دائما ربحية، فقد تكون موجهة إلى جوانب أخرى من التنمية، كالتنمية المعرفية، والثقافية، والاجتماعية، والصحية. وتنطبق أدوات الاقتصاد، ونشاطاته، وغاياته المنشودة على مختلف شؤون الحياة وقطاعاتها المختلفة، سواء الخدمية منها أو الإنتاجية.
وكثيرا ما يطلق على الاقتصاد صفات تعطي أبعادا متجددة في معناه، يجدر استيعابها وتفهمها، لأن الاقتصاد ليس فقط علم للمتخصصين، بل هو أيضا شأن عام يهم الجميع، على الأقل في طروحاته البسيطة وآثاره العامة. فللناس جميعا إسهام واضح في نشاطات العمل والإنتاج، وفي نشاطات السوق كمشترين للسلع والخدمات للاستفادة منها، وكبائعين لها لتأمين متطلبات الحياة منها. وطرحنا في مقال سابق موضوع وصف الاقتصاد بالرقمي، وكيف أن هذا الوصف يعبر عن اقتصاد أجدى كفاءة وأكثر فاعلية، وأعلى رشاقة في الاستجابة للمتطلبات، لأنه يعتمد على نماذج عمل متجددة، تستفيد من البنية الرقمية، ومن استخدام مزايا العالم السيبراني.
ومن الصفات المهمة، التي باتت تقترن بالاقتصاد، يبرز تعبير "الاقتصاد السلوكي Behavioral Economics"، وهو موضوع مهم للجميع، يسعى هذا المقال إلى مناقشة أساسياته. ويقول تعريف لهذا الاقتصاد، منشور على موقع جامعة شيكاغو، حيث يعمل رتشارد ثالر Richard Thaler أحد أهم علماء هذا الاقتصاد، "إن علم الاقتصاد السلوكي يدمج عناصر من علم الاقتصاد مع عناصر أخرى من علم النفس من أجل فهم سلوك الناس على أرض الواقع، بما يشمل أسباب هذا السلوك". وشهد هذا العلم، في العقود الأخيرة إنجازات مهمة استحقت خمس جوائز "نوبل Nobel". وسنستعرض فيما يلي، باختصار، موضوعات الإسهامات التي حققت هذه الجوائز.
حصل هربرت سايمون Herbert Simon على جائزة نوبل في 1978 عن عمله في موضوع "العقلانية المحصورة وتأثيرها في اتخاذ القرار". ثم حصل جاري بكر Gary Becker على الجائزة في 1992 في موضوع "الدوافع الشخصية وأخطاء المستهلك". وفي 2002 جاءت جائزة نوبل في الاقتصاد السلوكي مشتركة بين دانيال كاهنمان Daniel Kahneman وآموس تفيرسكي Amos Tversky في موضوع "نظرية المحتمل بين الربح والخسارة وترسيخ التحيز باتجاه الربح". وكانت الجائزة، في 2013، من نصيب روبرت شيلر Robert Shiller في موضوع "تحليل أسعار الأصول وشؤون سوق الأسهم". ثم حصل رتشارد ثالر Richard Thaler على الجائزة الأخيرة حتى الآن في مجال الاقتصاد السلوكي، في 2017، وكانت في موضوع "اللاعقلانية المتوقعة التي تعصى النظرية الاقتصادية وأثرها في قرارات الأفراد والمجموعات".
وعلى الرغم مما يبدو من تعقيدات علمية في علم "الاقتصاد السلوكي"، إلا أنه بسيط في جوهره، فهو يهتم أساسا بسلوك الإنسان في السوق تجاه ما يعرض أمامه من منتجات وخدمات، ويرتبط هذا السلوك بعقله ومشاعره، تجاه ما يعرض أمامه من ناحية، وكذلك باحتياجاته من ناحية ثانية. وبالطبع، فإن أداء أي منتج أو خدمة في السوق معيار رئيس للنجاح، ويتطلب سلوكا إيجابيا من القطاع المستهدف بهذا المنتج أو الخدمة. ويحتاج ذلك إلى منتجات وخدمات جذابة، وتسويق مناسب يحفز السلوك الإيجابي المنشود.
وفي مسألة تحفيز السلوك الإيجابي للإنسان تجاه ما في السوق من منتجات وخدمات، يشهد العالم الذي نعيش فيه ظاهرتين مهمتين. تتعلق الظاهرة الأولى "بالابتكار" وتقديم منتجات وخدمات غير مسبوقة، كما ترتبط هذه الظاهرة أيضا "بالتحديث التدريجي"، في شكل ومضمون كل من المنتجات والخدمات. فالابتكار المنشود يقدم منتجات جديدة تحمل خصائص غير مسبوقة، يمكن أن تحفز السلوك الإيجابي لكثيرين تجاهها. ويشجع التحديث التدريجي على التوجه نحو اقتناء المحدث، وبالتالي استدامة الطلب، واستدامة الإنتاج. ومن أمثلة ذلك، ما نشهده في سوق منتجات أجهزة الجوال، والحواسيب، والأنظمة الإلكترونية المختلفة. حيث يتجه سلوك كثيرين نحو هجر أجهزتهم السابقة، واقتناء المحدث من نماذجها، على الرغم من استمرار صلاحية أجهزتهم السابقة.
وننتقل إلى الظاهرة الثانية بشأن تحفيز السلوك الإيجابي للإنسان في السوق. تستند هذه الظاهرة إلى مراقبة سلوك الإنسان في السوق، واستقراء توجهاته، وذلك عبر الأدوات الرقمية للعالم السيبراني. في هذا الإطار، تقوم جهات المراقبة بوضع نموذج لمتطلبات كل إنسان تجاه ما هو معروض من منتجات وخدمات، إضافة إلى توجهاته السلوكية، وربما توقعات سلوكه المستقبلي أيضا. وعلى ذلك، كثيرا ما يجد كل فرد، عبر وسائل العالم السيبراني، عروضا لمنتجات وخدمات تتوافق مع سلوكه الإيجابي السابق تجاهها، حيث تدعوه، وربما تحفزه بإغراءات خاصة، إلى تكرار هذا السلوك، وربما إلى تجديده من أجل المنتجات والخدمات المحدثة. وتدمج هذه الظاهرة بين الاقتصاد السلوكي من جهة، والاقتصاد الرقمي من جهة أخرى، إضافة إلى أساليب الذكاء الاصطناعي أيضا.
لا شك أن سلوك الإنسان عموما، سواء في قضايا السوق أو في غيرها، ليس عقلانيا دائما. فالعقل ليس موجها وحيدا لسلوك الإنسان، فهناك المشاعر التي تشارك في توجيه هذا السلوك. وإذا كان العقل لا يستسلم للإغراء لأنه يبحث فيما وراءه، فإن المشاعر قابلة للإغراء من قبل حملات تسويق المنتجات والخدمات، ولعلها قابلة أيضا للنفور من هذه الحملات، عندما تستهجن عروضها. ومن العقل والمشاعر معا تأتي قرارات الإنسان ويتشكل سلوكه. والأمل أن يكون العقل دائما سيد الموقف في القضايا المادية، وأن تكون المشاعر في موقف مماثل في القضايا الإنسانية. لكن الحقيقة في مسألة سلوك الإنسان، سواء في المجال الاقتصادي أو غيره، تبقى متأرجحة بين العقل والمشاعر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي