في الدفاع عن عدم الانحياز

دأب منتقدو عدم الانحياز الجيوسياسي لفترة طويلة على وصف هذا التوجه بأنه سياسة معيبة ومحكوم عليها بالفشل، وفي أعقاب الحرب في أوكرانيا، بدأ عدم الانحياز يفقد شعبيته بسرعة. ذلك أن تلك الحرب لم تحدث إلا لأنها لم تكن ملتحقة بعضوية حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وهو ما دفع كلا من السويد وفنلندا إلى التخلي عن حيادهما الذي دام طويلا والتقدم بطلب الانضمام إلى عضوية "الناتو".
لكن عدم الانحياز، أو رفض التحالف مع أي قوة كبرى دون قيد أو شرط، ربما يكون ضروريا لكبح جماح القوى العظمى في العالم. وإلا فإن نزوعها المتزايد إلى النعرة القومية قد يؤدي إلى نشوء نظام عالمي يتعارض مع مصالح كل الدول الأخرى.
الواقع أن القومية الاقتصادية تشهد صعودا واضحا بين القوى العظمى الرئيسة في العالم. سلط تقرير صادر عن معهد بيترسون للاقتصاد الدولي في 2019 الضوء على الدعوة التي أطلقها رئيس الولايات المتحدة آنذاك دونالد ترمب إلى انتهاج سياسات الحماية، وفرض القيود على الاستثمار الأجنبي الموجه إلى الداخل والهجرة، ورفض القيود متعددة الأطراف. في السابق، كانت الولايات المتحدة تعرض على حلفائها التزامها بنظام دولي قائم على القواعد والأمن المشترك، وهو ما تسعى إدارة جو بايدن إلى استعادته. لكن شعار "أمريكا أولا" الذي رفعه ترمب تسبب في تغيير ذلك العرض.
الصين أيضا تعيد تشكيل العرض الذي تقدمه إلى حلفائها المحتملين. قبل عشرة أعوام، وعدت مبادرة الحزام والطريق الصينية الدول الشريكة بتمويل سخي لمشاريع البنية الأساسية والتنمية، حيث أنشأ صناع السياسات الصينيون شبكة قوية من العلاقات الاقتصادية والمالية والسياسية والأمنية في مختلف أنحاء العالم. والآن يجري تقليص هذه الاستثمارات مع اتخاذ الصين نهجا أكثر عملية في التعامل مع المشاريع في الخارج.
على نحو مماثل، قبل ستة أعوام فقط، تعهد الرئيس شي جين بينج بدعم نظام عالمي قائم على القواعد. في المؤتمر الـ20 للحزب الشيوعي الصيني، أعلن أن التغيرات العميقة التي طرأت على المشهد الدولي والمحاولات الخارجية لابتزاز واحتواء وحصار الصين، تعني "أننا يجب أن نضع المصالح الوطنية أولا".
يساعد عدم الانحياز إلى حد ما على تمكين بعض الدول من وضع طرف في مواجهة الآخر في المنافسة على الاستثمار، والمساعدات، ومشتريات الأسلحة، والترتيبات الأمنية. وهو أيضا يمكن الدول من مساءلة القوى العظمى. كما يمكن الدول الأصغر حجما من تعزيز قيمها ومصالحها دون تقييد نفسها بسياسات وتفضيلات قوة عظمى دولية دون قيد أو شرط. من منظور القوى العظمى يمثل هذا تحديا. ذلك أن الولاء الأعمى يريح البال ويسمح لها بإظهار قدر أعظم من القوة.
تتطلب النزعة القومية الناشئة اليوم الاعتماد على الذات اقتصاديا، وهو ما قد يكون من الصعب تحقيقه بعد عقود من المشاركة النشطة في الأسواق العالمية. لتعزيز مرونتها المالية، عملت الهند على تكديس أكثر من 500 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي، في حين زادت البرازيل احتياطياتها إلى أكثر من 300 مليار دولار. تتمثل طريقة أخرى لتعزيز المرونة في تقليص الديون الخارجية. في منتصف العقد الأول من القرن الحالي، كان نحو 46 في المائة من ديون إندونيسيا العامة، ونحو 83 في المائة من ديون شيلي مقومة بعملات أجنبية. وبحلول العام الماضي، خفضت إندونيسيا النسبة إلى 23 في المائة في حين خفضتها شيلي إلى 32 في المائة. لكن تعزيز الاعتماد على الذات قد يكون صعبا حتى بالنسبة إلى الدول الغنية. على سبيل المثال، يزعم تقرير حديث صادر عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يعمل على تحسين قدراته التكنولوجية، إذا كان راغبا في العمل وفقا لقيمه "دون أن يتعرض للتنمر والترهيب من قبل آخرين". مع وضع مثل هذه الاعتبارات في الحسبان، اتخذ الاتحاد الأوروبي بالفعل خطوات نحو تحقيق هدف تعزيز استقلاليته الاستراتيجية من خلال إنشاء تحالف البطاريات الأوروبي، الذي يسعى إلى تطوير سلسلة قيمة تنافسية ومستدامة لتصنيع البطاريات في القارة. لكن الطريق لا يزال طويلا. الواقع أن موازين القوى العالمية تتحول مع تصاعد الخصومة بين الولايات المتحدة والصين. علاوة على ذلك، تواجه كل من القوتين العظميين تحديات سياسية داخلية قد تؤثر في سياستيهما الخارجية. من ناحية أخرى، لا ينبغي لأحد أن يلوم دولا أخرى على سعيها إلى عدم الانحياز لتحقيق الاعتماد على الذات. وربما تساعد مقاومة جاذبية القوى العظمى على ضمان نشوء نظام عالمي أكثر عدالة وإنصافا.
خاص بـ"الاقتصادية"
بروجيكت سنديكيت، 2022.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي