درس من كارثة .. بناء منازل تقاوم الزلازل
من المفترض أن يكون المنزل ملجأ، ولكن عندما يضربه زلزال، يمكن أن يصبح قاتلا. ليست الهزات الأرضية هي التي تقتل، بل المنزل نفسه، انهيار الهياكل، والأرضيات الهابطة، والجدران المتهدمة.
حولت الزلازل القوية التي هزت جنوب شرق تركيا وشمال سورية في 6 شباط (فبراير) شوارع بأكملها ومجمعات سكنية إلى أنقاض. كانت هذه عمارات شيدت حديثا، كجميع مبانينا تقريبا، من الخرسانة المسلحة بالفولاذ، تماما كما هو مذكور في كتب الهندسة المعمارية. فكيف يمكن أن تنهار على هذا النحو السيئ؟
تقول الدكتورة ياسمين ديديم أكتاش، وهي مهندسة إنشائية مولودة في أنقرة ومتخصصة في الهياكل الزلزالية وتدرس في جامعة يو سي إل في لندن: "إننا كمهندسين لدينا المعرفة لبناء مبنى يمكن أن يصمد أمام أي شيء". رغم ذلك، تضيف، بعد زلزال 1999 الذي كان مركزه مدينة إزميت، "رأينا أنقاض المباني التي انهارت. كانت هناك خرسانة يمكننا تفتيتها بأيدينا، ورأينا الرمال (غير المناسبة) مستبدلة بالخرسانة، وطرق مختصرة في البناء".
"منذ ذلك الحين، تمتلك تركيا قوانين تنظيمية قوية ومتطورة، ولكن المباني لا تشيد وفقا لها".
ووفقا لوزارة البيئة والتحضر التركية، في 2018، تم تشييد أكثر من 50 في المائة من جميع المباني في البلد، ما يقارب 13 مليون مبنى، بشكل غير قانوني. على الرغم من الزلازل المتكررة، تمت عملية التعديل التحديثي لعدد قليل جدا من المباني القديمة بحماية أو تعزيزات إضافية. في الواقع، أطلقت الحكومة التركية في 2018 عفوا يمكن أصحاب المباني التي شيدت بعد 1999 "مقابل رسوم رمزية بالطبع" لجعلها قانونية.
قد تكون تركيا وسورية في مقدمة أذهاننا في الوقت الحالي، لكنهما بعيدتان جدا عن كونهما الوحيدتين اللتين تواجهان كارثة حقيقية ومحتملة. هناك خريطة تظهر التقاء الكثافة السكانية ومناطق النشاط الزلزالي بشكل مثير للقلق. تتوهج مجموعات من النقاط المضيئة عبر شمال الهند وماليزيا وإندونيسيا واليابان وعلى طول الساحل الغربي لأمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية في خط كثيف غير منقطع تقريبا.
تشير التقديرات إلى أن امتداد صدع سان أندرياس بوسط كاليفورنيا يتعرض لزلزال بقوة ست درجات أو أكثر كل 22 عاما. كان آخر زلزال يضرب الصدع المذكور بقوة الزلازل التركية السورية في 1906. بمقياس 7.8 "بلغت قوة الزلازل التركية السورية 7.8 و7.5"، وقد دمر سان فرانسيسكو. أظهرت الزلازل المدمرة في الدول ذات قوانين البناء القوية بما فيها تلك الموجودة في كرايستشيرش في نيوزيلندا وتوهوكو في اليابان في 2011 بقوة أنه لا يمكن إلقاء اللوم في الدمار على التنظيم السيئ أو الفساد أو البناء الرديء الموجود في بعض الاقتصادات النامية.
المهندسون والمصنعون اليابانيون، الذين ما زالت تطاردهم ذكريات زلزال كانتو العظيم في 1923، الذي سوى المباني الخشبية التقليدية في طوكيو ويوكوهاما التاريخيتين بالأرض، وأودى بحياة 140 ألف ضحية، لا يزالون يبتكرون. من المثبطات الهيدروليكية والبندولات الضخمة المعوضة للحركة إلى شبكات التثبيت التي تحوط المباني، وتستمر الأفكار الهندسية الجديدة، المعقدة والبسيطة على حد سواء، في الظهور.
يواصل المهندسون المعماريون المشهورون، بمن فيهم كينجو كوما وسو فوجيموتو، اقتراح هياكل أنيقة لزيادة الثبات. قام شيغيرو بان، الذي صمم منازل مؤقتة باستخدام أنابيب من الورق المقوى وخيوط وقماش مشمع بعد زلزال هايتي في 2010، بتصميم منازل بسيطة مقاومة للزلازل من مواد رخيصة يمكن للمجتمعات بناؤها دون مساعدات خارجية.
على صعيد آخر، تستخدم المباني الكبرى عزلا للأساسات، حيث تسمح دعامات الانزلاق أو القص للهيكل بالانفصال عن قاعدته أثناء الاهتزازات العنيفة. بالنسبة إلى المباني المرتفعة تستخدم "المثبطات الثقلية المتناغمة"، فإن أوزان الفولاذ أو خزانات المياه المرتفعة في الأبراج تساعد على الحد من درجات الحركة القصوى. ويتم استخدام الأدوات نفسها لتقليل سرعة التأرجح في ناطحات السحاب الرفيعة مثل نيويورك.
إذا كان زلزال كانتو العظيم، قبل قرن قد أوضح بشكل مأساوي أوجه قصور المباني القديمة وأوائل المباني العصرية في مقاومة الاهتزازات، أثبتت الأحداث الزلزالية الحديثة في كوبي وهيبي ومكسيكو سيتي أنه ليست ناطحات السحاب المصممة بشكل هندسي هي التي أصبحت أكثر فئات المباني ضعفا وخطورة، بل المجمعات السكنية متوسطة الحجم والمنتشرة في كل مكان، التي شيدت أخيرا في مدن سريعة النمو.
تقول أكتاش: "إن هناك طرقا مختلفة يمكن أن تشيد فيها المباني على نحو خاطئ. فغالبا ما تكون هناك اقتصادات في عملية البناء، حيث يتم استخدام المواد الأرخص سعرا، والنوعية الرديئة المستخدمة في الخرسانة أو استخدام قضبان التسليح لتوفير المال. ولكن هناك أيضا ما يحدث بعد الإشغال، إذ يشيد أصحاب المباني طوابق إضافية أو حتى يزيلون الأعمدة الهيكلية أو الجدران في الطابق الأرضي لإنشاء سوبر ماركت مثلا".
يعرف هذا في السياق الزلزالي "بالطابق الأول الضعيف"، وهو طابق أرضي ذو أسقف أعلى من بقية المبنى، وربما نوافذ متاجر كبيرة، ويؤدي كل ذلك إلى تقليل المتانة الهيكلية بالضبط، حيث تكون الحاجة إليها ملحة.
سلطت آثار الزلازل الأخيرة الضوء أيضا على حالة حضرية أخرى، حيث تقوم الحاجة إلى مساحات عامة واسعة للتجمع بعد الكوارث في حال ما زالت المباني غير آمنة. ويقول هاكان توبال، وهو فنان ومهندس تركي يعيش في بروكلين: "كان هناك عديد من هذه الأماكن المخصصة (في جميع أنحاء تركيا)، وغالبا ما كانت حدائق وساحات عامة (...) إلا أنه تم بناء مراكز التسوق عليها".
قد يكون الأمر غير منطقي، لكن المهندسين والمعماريين يصممون المباني مع احتمال تعرضها للضرر، أو على الأقل يتقبلون حدوثه. حيث تقول أكتاش: "نحن نصمم من أجل سلامة الحياة. في مثل هذه الأحداث القاسية، فإن مدى الضرر قد يساعد على تبديد طاقة الزلزال. يمكن أن نكون سعداء بذلك، لكن يجب أن يحدث بطريقة لا تؤثر على هيكلية استقرار المبنى. إن ما نراه في الصور وعلى شاشة التلفاز، هو أن هذه الهياكل المنهارة التي سويت بالأرض، وتلك المتداعية تخبرني أننا سنحتاج إلى فهم أفضل لما حدث هنا".
ظهر تعبير "بانكيكد" الذي استخدمته أكتاش في التغطية الإعلامية لتداعيات هذه الزلازل. يصف التعبير الانهيار عندما تضعف المفاصل بين الجدران والأرضيات وتتراكم أرضيات الطوابق فوق بعضها بعضا مثل كومة من الفطائر، لتسحق السكان دون سابق إنذار. وعادة ما يشير ذلك إلى أن بعض مراحل عملية البناء قد حصل فيها تجاوزات.
قال لي المهندس الإنشائي حنيف كارا، مؤسس شركة أيه كيه تي 2، ومقرها لندن: "تبدو هذه الإخفاقات وكأنها ناجمة عن أخطاء إنشائية جوهرية للغاية. فالمفاصل، وهي الوصلات بين الأعمدة الرأسية والألواح الأفقية، غير موصولة بشكل صحيح. ويمكنك أن تتخيل أن معرفة طريقة البناء لمقاومة الزلازل منتشرة بدرجة كافية لكن غريزتي تخبرني أنه لم يتم استخدامها".
تقول أكتاش إنه في تركيا "تمت إجراءات التعديل التحديثي للأحياء القديمة لتلبية اللوائح الجديدة المتعلقة بالزلازل كأداة لتحسين المستوى الاجتماعي". كما تم هدم المباني التاريخية، التي اعتبرت غير آمنة بدلا من تعزيزها. وتقول إن السياسيين أدركوا أن هذه الأماكن التاريخية، التي غالبا ما تكون قريبة من مراكز المدن (ويتضح ذلك أكثر في إسطنبول)، قد آن موعد إعادة تطويرها.
يقول توبال: "استخدم أردوغان البناء كأداة لتطوير الاقتصاد، ولا يمكن لشيء أن يعترض طريقه". كما يقول إنه كجزء من السياسة الشعبوية "كان هناك اقتراح بأن حكومة دعم الأعمال تعني التخلص من"النخبة": وهم المعماريون والمهندسون والأكاديميون. كما أن البيروقراطيين الذين يشرفون على تنظيم البناء (وهم دائما لا يحظون بشعبية في الاقتصاد المدفوع بالعقارات) يبدون هدفا يسهل التخلص منه.
يستطيع المهندسون، كما تقول أكتاش، أن يصمموا لأي احتمالية، كي تتحمل المباني أي زلزال تقريبا. لكن معظم الناس لن يختاروا العيش في صندوق خرساني ضخم بنوافذ صغيرة، كما لن يربح المقاولون كثيرا من المال في بنائه.
ربما تكون المشكلة الأكبر هي الطريقة، التي نبني بها، الممارسات والأساليب المترسخة. فتلك المستطيلات والمكعبات التي قد تكون أكثر ملاءمة لإنشائها والعيش فيها تجعل الأبنية هشة بشكل مدهش، حيث يمكن أن تؤدي التجاوزات الصغيرة في البناء والمفاصل الضعيفة والوصلات السيئة إلى تقويض السلامة الهيكلية بسهولة وبشكل مميت. إن مشاهدة أنموذج لمبنى مكون من ثلاثة أو أربعة طوابق يتأرجح مثل الهلام على جهاز محاكاة قبل أن ينهار بالكامل يثير فينا إدراكا مقلقا لضعفنا.
مع ذلك، هناك إجراءات تعديل تحديثي بسيطة يمكن أن تحدث فرقا كبيرا. فوضع الأقواس المائلة في الزوايا يزيد بشكل جذري نسبيا من الثبات في الالتواءات التي تحدث أثناء الزلزال، مثلا. ويمكن لمثبطات الحركة المثبتة على أرضيات بديلة أن تكون كافية لمواجهة أسوأ الأضرار وخطر الانهيار.
أخبرني كارا: "في إندونيسيا، قاموا ببناء الملاجئ داخل المنازل، وهي عبارة عن غرفة واحدة أقوى من الغرف الأخرى، بحيث إذا حدث زلزال، فسيكون للسكان مكان آمن يذهبون إليه". وهذا نوع مختلف جدا من الغرف الآمنة.
فيما تم التعديل التحديثي لكثير من الأبنية في ولاية كاليفورنيا بشكل فعال بإجراءات مضادة للزلازل. كما جعلت كل من لوس أنجلوس وسانتا مونيكا عملية التعديل التحديثي لجميع المباني المعرضة للخطر إلزامية، لكن الكثير من المدن الأخرى ما زالت تقاوم ذلك.
قال ديفيد كوك، رئيس كل من معهد أبحاث هندسة الزلازل وشركة ستراكتشورال فوكاس في جاردينا، كاليفورنيا: "بدأت الأمور تتحسن، ولا سيما في كاليفورنيا، لكننا دائما في خطر أن نصبح راضين عن أنفسنا. إن الأحداث في تركيا مروعة لكننا بحاجة إلى استخدام الانتباه الذي تجلبه الصحافة لهذه الأحداث، لاستخدام تلك المشاعر. لدينا نافذة زمنية تمتد بضعة أشهر، بينما لا تزال حاضرة في أذهان الناس ونحن بحاجة إلى الاستفادة منها من أجل الدفع بعملية التنظيم".
إن التاريخ حافل بالإلهام كما كان دوما. فبعد الزلزال الذي دمر مدينة لشبونة في 1755، توصل المهندسون المعماريون والمهندسون إلى طريقة بناء تسمى قفص البومبالين، حيث كانت عبارة عن نظام من الإطارات الخشبية تستخدم أعمدة موضوعة عموديا وعوارض وتعزيزات قطرية تملؤها الحجارة. وكان هذا النظام يستفيد من مرونة الأخشاب وصلابة الحجر وخصائصه المقاومة للحريق. وقد أعيد بناء حي بايكسا الجديد في المدينة بالكامل باستخدام هذه الأساليب.
من جبال الأنديز إلى إندونيسيا، أثبت الخيزران أنه مادة مرنة على نحو بارز، حيث يشهد الخيزران الآن نهضة نظرا لاستدامته (بالمقارنة مع الخرسانة الكربونية الثقيلة)، فهو مرن وخفيف الوزن ويمكن زراعته محليا كما يعد موردا متجددا، حيث يقوم المهندس المعماري الكولومبي سيمون فيليز بتشييد مبان معقدة وجميلة باستخدام الخيزران، وقد ألهم الآخرين عبر المحيط الهادئ (والعالم بأسره) لاستخدامه أيضا. ولسرعة نموه وسهولة التعامل معه، يمكن استخدامه من قبل المجتمعات الصغيرة دون الحاجة إلى معدات ثقيلة. حتى في حال تضررها من الهزات، فمن السهل إصلاح المباني المصنوعة من الخيزران، وإذا انهارت جزئيا، فهي أقل فتكا من البلاطات الخرسانية.
قامت شركة رامبول الهندسية بتطوير منازل من الخيزران مقاومة للزلازل في لومبوك بإندونيسيا، باستخدام الهياكل المتقاطعة وأغطية منسوجة. يستخدم مشروع بيت لجميع الفصول التابع لشركة رورال أيربان فريم ورك في مقاطعة شنشي بالصين الخرسانة إلى جانب الطوب الطيني لإنشاء عمارة بارتفاع منخفض باستخدام مواد وأساليب العمارة التقليدية البسيطة والأنيقة والمقاومة للزلازل.
أما بالنسبة إلى المهندسة المعمارية ياسمين لار، فكان زلازل باكستان في 2005 بمنزلة حافز لها لتصميم سلسلة من المساكن، التي شيدها المجتمع المحلي، والتي تم تصميمها لمقاومة الزلازل والفيضانات، كما أنها مناسبة أيضا للإغاثة في الحالات الطارئة وكمسكن على المدى الطويل. وباستخدام الأقواس المائلة فيها البسيطة والرخيصة لتحقيق الاستقرار، بدأوا في أعقاب الكارثة بمعالجة مشكلات التشرد الضخمة، التي غالبا ما تؤدي إلى وفيات أكثر من الحدث نفسه.
أما مبنى تيليفيجين هاوس الذي صممته شركة نوريوشا موريمورا في مدينة سويتا اليابانية فهو مختلف تماما، فهو مسكن بتكنولوجيا عالية يقع على قاعدة على شكل حرف V حيث تم تصميمه لعزل الهيكل عن الهزات الأرضية. وفي مجموعة الأبنية الضخمة في شينغدو، التي تسمى سلايسد بوروسيتي بلوك، استخدم المهندس المعماري ستيفن هول الدعامة القطرية الإضافية اللازمة للحماية من الزلازل كجهاز لتعطيل الشبكات المعمارية، ما أوجد أشكالا هندسية غريبة وجمالية مفاجئة لكنها مريحة. أما في اليابان، استخدم في هانشا ريفليكشن هاوس من تصميم ستوديو سكليم تقنيات النجارة اليابانية التقليدية إلى جانب التعزيزات لبناء مسكن معاصر للغاية يمتاز بمقاومته للزلازل.
مع ذلك، فإن الحقيقة المؤلمة هي أن معظم البناء السكني في العالم ليس منظما على الإطلاق -أو إذا كان منظما، فإن فعاليته تتآكل بسبب الفساد والإهمال. من الصعب قبول أن كل زلزال على ما يبدو يجلب معه مأساة إنسانية لا نهاية لها. ولكن حتى في أفقر المدن، يمكن اتخاذ التدابير للتأكد من أن المباني هي التي تتحمل أسوأ الأضرار وليس السكان.
يقول كارا: "يجب أن تبقى المسألة حاضرة في الوعي العام. نحن بحاجة إلى التثقيف حول أهمية البناء الجيد، كما أن على الأمم المتحدة بذل مزيد من الجهد هنا".
تقول أكتاش: "يجب أن ندرك أن هذا الزلزال كان قويا للغاية. لقد كنا دائما نتوقع حدوث ضرر". لكن زلزالا بقوة 7 درجات يضرب الأرض في مكان ما مرة واحدة في الشهر، حيث ضرب زلزال بقوة 6.3 درجة نيوزيلندا هذا الأسبوع. الزلازل تحدث في الغالب حيث لا يوجد أشخاص، أينما تضرب الزلازل، فالأرض لا تهتم لها. لذا يجب علينا نحن أن نهتم. وذلك من خلال البناء بشكل أفضل.