اقتصاد الرياضة .. استثمار رابح بمخاطر أقل

اقتصاد الرياضة .. استثمار رابح بمخاطر أقل
اقتصاد الرياضة .. استثمار رابح بمخاطر أقل

تحولت الرياضة من هواية وتسلية، كما يوحي بذلك مصطلح Sport في اللغة الفرنسية والإنجليزية المنحدر من الأصل اللاتيني Disport، ومعناه التحويل والتغيير حيث يحول الناس مشاغلهم واهتماماتهم بالعمل إلى التسلية والترويح عن طريق الرياضة، نحو الاحتراف والمهنية. فالارتفاع الكبير والمتواصل لحجم الاستثمارات في قطاع الرياضة في العالم، أسهم في نمو وازدهار صناعة الرياضة على مدار العقود الأربعة الماضية، إذ حققت هذه الصناعة تطورا كبيرا من حيث الكم والنوع، مقارنة بـباقي الصناعات الأخرى.
شرعت الدول تباعا في إيلاء القطاع الاهتمام المستحق، بعدما تأكد لديها أن مؤشرات اقتصاد الرياضة في ارتفاع مستمر، وأن هذه الصناعة العالمية باتت تشكل أحد دعائم الاقتصاد الوطنية، بما تستقطب استثمارات تبلغ مئات المليارات. فالأرقام المسجلة في 2020، تفيد بأن الاستثمار الرياضي السنوي العالمي وصل إلى نحو 840 مليار دولار، محققة زيادة قدرها 140 مليار دولار خلال ثلاثة أعوام فقط.
صحيح أن الرياضة ليست بالأمر الحدث على المجتمعات البشرية، فأصولها تعود إلى نمط حياة الإنسان البدائية وصراعه مع الطبيعة لتأمين عيشه، هنا استلهم الأفكار وحولها إلى ممارسات نظمها بقواعد وأصول ورعاية وجمهور. وهكذا استمرت الرياضة في التطور، لعبا وتقنية، وأسهمت الثورة الصناعية في توسيع قاعدة المحتضنين، ما أسهم في تأمين التمويل ثم التسويق والإعلام لاحقا. كل ذلك جعل المتبارين، بدءا من القرن الـ19، يشترطون الحصول على حصة من الإيرادات، ليدخل المال، وبشكل تدريجي، عالم الرياضة، التي تحولت إلى مهنة منظمة بقواعد وضوابط ومؤسسات.
تاريخ الاقتصاد الرياضي
يصعب التأريخ بدقة لبداية دخول الاقتصاد عالم الرياضة، فالمسألة في بواكيرها كانت مجرد منافسة رياضية تجمع حولها محبي لعبة معينة، بغرض الفرجة والترفيه لا أكثر، حتى إن ارتبط الرمز بجوائز تشجيعية أو مستحقات مالية، فعادة ما يكون الأمر ثانويا. ظل الوضع هكذا حتى النصف الثاني من القرن الـ19، حين اقتحم المنظور الاقتصادي عالم الرياضة، وتحديدا رياضة كرة القدم، التي أصبحت نشاطا اقتصاديا في سوق خاصة وميزانية وتمويل... وهلم جرا من مقومات النشاط الاقتصادي.
وتذهب رواية أخرى إلى معاكسة الطرح السابق، عادة أن الرياضة من تغلغلت في الاقتصاد، بانتقالها من مجرد لعب وتنافس من أجل التسلية والترويح إلى منظومة متكاملة قوامها اتحادات محلية وقارية ودولية ترعى المنافسات والبطولات على جميع الأصعدة، وشركات كبرى تسير الفرق والأندية، وأموال تجنى من الإعلانات والتذاكر والرعاية والرواتب وعقود الانتقالات وحقوق البث...
انطلق التحليل الاقتصادي لقطاع الرياضة في خمسينيات القرن الماضي، وبالتحديد في 1956، مع المقال التأسيسي للاقتصادي الأمريكي والأكاديمي في معهد ماساشوستس، سيمون روتنبرج الذي حدد خصائص هذه الصناعة الجديدة الذي لا تختلف كثيرا، بحسب الباحث، عن الصناعة بالمفهوم التقليدي للكلمة. وحاليا تدرس اقتصادات الرياضة، في أكثر من 150 جامعة في الولايات المتحدة.
أيا يكن الأمر، دخول الاقتصاد إلى الرياضة أم غزو الرياضة للاقتصاد، فالنتيجة سيان عناية واهتمام دوليان بالموضوع، فنطاق السوق الرياضية الناشئة تعدى حدود المستطيل الأخضر، وتجاوز تأثيره دائرة الملاعب ليشمل سوق الألبسة والأحذية والمعدات الرياضية والمشروبات والتنقل والفنادق والمطاعم والإعلام والإشهار... وهكذا دواليك في دائرة ممتدة من القطاعات المربحة التي تدور في فلك اقتصاد الرياضة، حتى بات حقيقة أن الرياضة صارت لاعبا محوريا في الدورة الاقتصادية سواء باعتبارها منتجا وشريكا أو كقيمة مضافة.
معطيات وضعت الرياضة تحت الأضواء، منذ الربع الأخير من القرن الماضي، فالفرص الواعدة لهذه الصناعة أثارت، بشكل غير مسبوق، اهتمام المستثمرين ورجال الأعمال، ما حدا بالمفوضية الأوروبية، في 1994، إلى التأكيد في كتابها الأبيض على دور الرياضة في الاندماج في الاقتصاد العالمي.
بدأت دول العالم تدرك، مع توالي الأعوام، قيمة الكنز المدفون لديها، ما أشعل فتيل التنافس والصراع على الظفر بأحقية تنظيم التظاهرات الرياضية والبطولات العالمية "كأس العالم، الألعاب الأولمبية...". فالعوائد المكتسبة من هذا المجال تفيد بأن صناعة الرياضة قطاع واعد وملهم، وأحد أكثر المجالات الاستثمارية ربحية، متى تم التعاطي معه بمقومات الصناعة والتجارة لا الهواية والترفيه.
صناعة الرياضة بلغة الأرقام
تحولت الرياضة إلى صناعة المستقبل، وركيزة أساسية للنمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي داخل عدد من الدول، فضلا عن كونها الصناعة الوحيدة في العالم - على ما يبدو - المحصنة ضد الأزمات. وقد سبق لرئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم أن تحدث عن عالم الكرة، قائلا، " كرة القدم أكبر مشروع اقتصادي في العالم، ولا توجد شركة تحقق إيرادات أكبر مما تحققه كرة القدم الدولية".
دون تحديد لأي صنف رياضي، تفيد الأرقام بأن الدخل السنوي من قطاع الرياضة في الولايات المتحدة تعدى، منذ مطلع الألفية، ضعف قطاع الصناعة، وسبعة أضعاف قطاع الإنتاج السينمائي، ليحتل المركز الخامس في الاقتصاد الأمريكي، بتوفيره ما يقارب 280 ألف منصب شغل سنوي، مسجلة 4 في المائة من الدخل القومي.
يفيد تقرير لمجلة "فوربس" الأمريكية، بأن حجم الضرائب المدفوعة على الاستثمارات الرياضية في الولايات المتحدة، عن 2016، بلغ نحو 217 مليار دولار. و2019، حققت صناعة الرياضة، في البلد ذاته، ما قدره 73،5 مليار دولار. وسجلت صناعة الرياضة في الصين 1،9 تريليون يوان، ما يقارب 300 مليار دولار. أما في البرازيل فدخل كرة القدم لوحدها يمثل 5 في المائة من إجمالي الدخل في البلد.
بالتركيز على كرة القدم وحدها، تفيد الأرقام أن إجمالي صناعة رياضة كرة القدم في العالم قد بلغ 1.89 مليار دولار، في 2019. ويتوقع أن يبلغ الرقم، بعد أربعة أعوام، أي 2027، إلى 3.7 مليارات. وبحسب تقديرات المختصين في هذا المجال، فإن نمو المعدل السنوي التراكمي من 2021-2027 سيصل إلى 18.3 في المائة سنويا.
وباختيار التذاكر عينة عن مشمولات اقتصاد الرياضة، يتوقع أن يرتفع إنفاق محبي الرياضة على ثمن تذاكر المباريات بنسبة تفوق 6 في المائة خلال العام الجاري، ليصل الرقم إلى 29 مليار دولار للأحداث الرياضية الاحترافية الكبرى "كرة القدم، كرة السلة، البيسبول، الجولف، التنس، وسباق السيارات". علاقة بموضوع التذاكر، تستحوذ الولايات المتحدة وحدها على أكثر من 45 في المائة من عائدات مبيعات التذاكر في العالم.
لكل ما سبق، اختارت عديد من الدول وبذكاء منها خوض غمار الاستثمار في هذا القطاع الاقتصادي البديل عن المجالات الاستثمارية التقليدية، واضعة نصب أعينها أكثر من هدف بهذا الاختيار، فالقرار تنويع لموارد الاقتصاد أولا، وسبيل أيسر لإدماج اجتماعي لجميع الفئات الاجتماعية، وتشجيع على العناية بالصحة البدنية والنفسية لعموم المواطنين.

الأكثر قراءة