فرنسا .. انتفاضة الضواحي تكشف عورات السياسة والاقتصاد
لا يزال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يضمد جراج معركة سن التقاعد، حتى تفجرت لديه أزمة جديدة هزت تداعياتها كبرى المدن الفرنسية، ما اضطره إلى تغيير جدول أنشطته الرئاسية، من أجل التفرغ للبحث في سبل مواجهة أعمال العنف والشغب المتزايد، بشكل غير مسبوق، في أحياء الضواحي في مختلف أنحاء المدن الفرنسية. فضلا عن التغطية على أخطاء وزير خارجيته جيرالد دارمانان، الذي خاطب الفرنسيين، وكأن بلاده في حالة حرب مع عدو خارجي، واعدا إياهم بأن "الجمهورية ستفوز".
شرارة الحريق التي وجهت أنظار العالم نحو فرنسا لأكثر من أسبوع، كانت جريمة قتل، برصاص عناصر الأمن الفرنسي، ضحيتها شاب من أصول جزائرية في الـ17 من العمر، كاد أن يتحول إلى رقم في قائمة ضحايا رجال الشرطة لولا تسجيل مصور يفند الرواية المحبوكة من قبلهم. جريمة بشعة، تدفع تطوراتها المتلاحقة بالبلاد نحو أتون حرب أهلية، بين الـ"نحن" (الفرنسيون) والـ"هم" (المهاجرون)، وتزيد من حدة الاحتقان الاجتماعي داخل البلد، فضلا عن تأزيم الوضع الاقتصادي المأزوم أصلا.
شرخ اجتماعي يتزايد
ظهرت الحكومة الفرنسية، في الأيام الأولى لانتفاضة الضواحي، شبة عاجزة على مواجهة أزمة لا مثيل لها في تاريخ الجمهورية الخامسة، إذ لأول مرة انتقل المحتجون من مرحلة الاعتداء على مؤسسات الدولة إلى الهجوم على الملكية الخاصة بالسرقة والنهب، ما جعل أصواتا تحذر من حقيقة هذه الاحتجاجات، بسبب الطابع التدميري العام الذي شابها.
لأجل ذلك، مزجت الحكومة في تفاعلها مع الأزمة ما بين المقاربة الأمنية، بتوزيع أزيد من 45 ألف رجل أمن في الشوارع، في مشهد أشبه ما يكون بالإجراءات المتخذة لمواجهة فتيل الحرب الأهلية في إحدى دول العالم الثالث، وليس في دولة أوروبية لا بل عضو في مجلس الأمن، نادي الخمسة الكبار، كانت حتى الأمس القريب حريصة على تقديم دروس لبقية دول العالم حول الحريات وحقوق الإنسان. وبين استجداء مؤسسات اجتماعية، وعلى وجهة التحديد الأسرة، بطلب مساعدة الآباء والأمهات لثني أبنائهم عن المشاركة في الاحتجاجات، لدرجة تهديدهم بالعقوبات القاسية في حال إصرارهم على ذلك.
ما سبق يثبت العجز البين للحكومات الفرنسية المتعاقبة، منذ كان نيكولا ساركوزي وزيرا للداخلية حين تفجر أول ألغام أزمة الضواحي، فحتى اللحظة لم تنجح كل الوصفات المجربة في وأد العنصرية وتخفيف حدة الإقصاء والتهميش تجاه الأجانب. وذلك عائد بالأساس لسياسية الاندماج التي تتنكر لهؤلاء المنتفضين، ممن ينتمون إلى الجيل الرابع من أبناء المهاجرين، فهم بذلك أبناء شرعيين لمؤسسات فرنسا وبرامجها، وليسوا ضيوفا طارئين أو عابرين. فضلا عن المشكلة الدلالية في كلمة الاندماج بذاته، فهي الوعي الجمعي الفرنسي، لا تعني شيء سوى الانصهار والتماهي مع مبادئ وقيم الجمهورية، دون أي اعتراف بالخصوصية أو على الأقل احترامها، في مجتمع يقدم نفسه مدافعا عن قيم التعددية.
استقطاب سياسي يتبلور
عكس الاحتجاجات السابقة ذات الغطاء التنظيمي النقابي "السترات الصفراء، إصلاح التقاعد..." تفتقد هذه المظاهرات الواجهة السياسية، فهو شغب غير مسيس، ما حدا بجميع الأحزاب إلى المسارعة لاستغلاله لمصلحتها. فسارع إريك زمور زعيم اليمين المتطرف إلى التحذير من بلوغ البلاد "حافة الحرب الأهلية". فيما سطع من جديد نجم الروائي المتطرف لورين أوبيرتيون الذي صنع مسيرته الأدبية بالتحذير في ثلاثية "غوريلا" من الكارثة محورها حرب أهلية في فرنسا، ما صير الرجل بعد هذه الأحداث متنبئ عصره.
يتوقع أن تتراخى تداعيات هذه الأحداث لتصنع تفاصيل المشهد السياسي الفرنسي، فتعيد هندسته بتحفيز عودة الاستقطاب اليميني اليساري من جديد، مع توالي الضربات الموجهة ضد يمين الوسط الذي بدا منهكا، بشكل غير مسبوق، مع الرئيس إيمانويل ماكرون. فرز لا محالة سيعيد إلى الواجهة قضايا سياسية، بأجندات يسارية ويمينة واضحة، وثيقة الصلة بمحور انتفاضة الضواحي من قبيل: الهجرة والإرهاب والأمن والإدماج...
ما سبق يمثل أوجها لمشكلة عميقة وقديمة، طالما فضل الفرنسيون التستر عليها بنهج سياسة عمى الألوان، إنه إشكال "الهوية الفرنسية" الذي عولج على امتداد الحكومات السابقة باعتماد مساحيق خداعة، تحجب الحقيقة أمامهم متى نظروا إلى المرآة. ويهدد بتعاقب الاضطرابات التي تأتي على ما بقي من اقتصاد مخنوق، يئن تحت وطأة الحصار الخارجي، بسبب انحصار النفوذ جراء الخسارة المستمرة للمستعمرات، والانهيار الداخلي بعجز الدولة على البقاء وفية لنموذج رفاهية ما قبل الألفية الثالثة.
رفاهية اقتصادية تتوارى
عرت انتفاضة الضواحي ما كان مستورا من أعطاب الاقتصاد الفرنسي المتراكمة، بعدما دار الزمن دورته على الديك الفرنسي الذي فقد قدرته على الصياح. فقبل 50 عاما، كانت فرنسا في المرتبة الخامسة عالميا من حيث الدخل الفردي. ثم ما لبثت أن انحدرت، في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون، إلى المركز الـ26 في سلم الترتيب العالمي، بعدما نجحت دول صاعدة ونامية من تجاوز الإمبراطورية التي كانت تتلقى منها الأوامر حتى وقت قريب.
ترفض فرنسا الاعتراف بهذه الحقيقة، التي أكدتها وكالة "فيتش"، في أعقاب احتجاجات التقاعد، بعد تخفيضها التصنيف الائتماني السيادي لفرنسا، من AA إلى -AA، بسبب تنامي المخاوف من ارتفاع تكلفة الديون الفرنسية التي تقدر بثلاثة تريليونات يورو، ففرنسا ضمن الدول الخمس الأولى في ديون الاتحاد الأوروبي، برقم يعادل نحو 112 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ما سبق يمثل، بحسب صحف فرنسية، صفعة قوية للحكومة والاقتصاد الفرنسيين على السواء.
وزاد من صدقيتها امتعاض برلين من سياسة ماكرون، ما جعلها تلمح أكثر من مرة بعدم قدرتها على مساعدة فرنسا مرة ثانية. ولم يتردد مسؤول ألماني في التعبير عن ذلك، في معركة قوامها صراع رمزي بالأساس بين باريس وبرلين حول من يملك أحقية الحديث باسم الاتحاد الأوروبي، بقوله، "إن باريس تتعامل كما لو أنها دولة غنية من الشمال، وهي تستجدي المساعدة مثل بقية دول البحر الأبيض المتوسط".