الأخطار الجيوسياسية والتداعيات الاقتصادية للحرب الروسية - الأوكرانية
ضجت مكاتب الكرملين بأصوات رنين الهواتف عند إعلان قائد مجموعة فاغنر الروسية يفغيني بريغوجين تمرده على وزارة دفاع بلاده وما بعدها من القيادات حتى رئيس البلاد فلاديمير بوتين، الذي عد القائد العسكري المتمرد طباخه، لتتم تسميته لاحقا بين أروقة السياسة العالمية بـ"طباخ بوتين"، ما شهدته روسيا من أحداث بإعلان التمرد وانتهائه بعد ساعات بوساطة الرئيس البيلاروسي ألسكندر لوكاشينكو، كانت له تفسيرات وتداعيات.
أبرز ما وصلت إليه التحليلات السياسية حول التمرد العسكري الروسي، بأن ما جرى خطة روسية بحتة بين القيادة في موسكو، وقائد قوات المرتزقة الروسية فاغنر، إلا أن ما تقوم به القيادة الروسية من إجراءات لمحاسبة بريغوجين بالسيطرة على قصوره، وما يصحبها من حملات لتشويه صورته، دفع بقوة بالتحليلات السياسية المؤيدة لحملة بوتين الانتقامية.
تصدرت الحرب الروسية الأوكرانية المشهد العالمي منذ اندلاعها في شباط (فبراير) 2022، وكان ملف الطاقة الأكثر قلقا على الصعيد الدولي عموما والأوروبي خصوصا، بارتفاع أسعار النفط وتجاوزه حدود الـ130 دولارا، إلا أن جهود عدم التصعيد أعادت الأسعار إلى حدود الـ80 دولارا، لكن التمرد العسكري الأخير كان قد أعاد المخاوف المتعلقة بأسعار النفط.
سرعان ما تشكلت المخاوف باستمرار تمرد مجموعة فاغنر لفترة طويلة، والذي كان سيتبعه في هذه الحالة تصعيد عسكري يلحق أضرارا بالبنية التحتية للنفط في روسيا، على نحو قد يترتب عليه تعطيل إمدادات الخام للأسواق الدولية، لكن ذلك لم يحدث، وتلاشت تلك المخاطر القوية التي تهدد سوق النفط العالمية.
وانخفضت حدة التصعيد في روسيا سريعا، وانسحبت قوات فاغنر من مدينة روستوف الاستراتيجية، وذلك بفضل جهود الوساطة البيلاروسية، ويعني هذا أن سوق النفط لن تتأثر بقوة بالأزمة الأخيرة أو على أقل تقدير سيبقى تأثيرها هامشيا للغاية، ولا سيما مع انتفاء أي علامات سلبية حول الوضع السياسي والعسكري في روسيا.
ومع نهاية جلسة حزيران (يونيو) الماضي، تم تداول عقود خام برنت بهامش ارتفاع ضئيل لا يتجاوز نصف دولار، لتصل إلى 74.3 دولار للبرميل، ما يعكس عدم وجود أي تهديد مباشر لإمدادات النفط الخام في المدى القصير، وفي هذا الصدد، ترى شركة "ريستاد إنيرجي" النرويجية أنه من المستبعد حدوث زيادة كبيرة في أسعار النفط بسبب "الحدث قصير الأمد" الأخير، ومع ذلك أكدت أن المخاطر الجيوسياسية وسط عدم الاستقرار الداخلي في روسيا قد ازدادت.
يعد تمرد فاغنر الأخير خطرا جيوسياسيا آخر للحرب الأوكرانية، وسيمثل ذلك عاملا لصعود أسعار النفط في وقت لاحق، إذا أظهر الوضع الداخلي الروسي أي مؤشرات سلبية جديدة.
وترجح بعض الآراء أن هذا التمرد السريع ما هو إلا مقدمة لزيادة التوتر الداخلي في روسيا، التي قد تفرض قيودا على مسار إنتاج وتصدير نفطها، فيما تشير آراء أخرى، وهي ربما الأكثر ترجيحا، إلى أن الداخل الروسي سيظهر تماسكا أكبر في الفترة المقبلة رغم التمرد العسكري الأخير، على نحو سيدعم في النهاية تطلعات موسكو لزيادة صادرات نفطها لمساندة اقتصادها وتعزيز موقفها العسكري في الحرب الأوكرانية.
تطورات الأوضاع الداخلية في روسيا ستكون محل مراقبة دقيقة من حلفائها الرئيسين، خاصة الصين والهند، ويبدو من السابق لأوانه أن تتخذ كلا الدولتين موقفا معاكسا وتبتعد عن شراء النفط الروسي، بيد أن بكين أو نيودلهي ستفسران تمرد فاغنر بأنه قد يكون مؤشرا على ضعف شريكتهما، ويمكن انتهاز هذه الفرصة لنيل مكاسب سياسية واقتصادية مثل الحصول على شحنات النفط الروسي بتخفيضات سعرية أكبر.
من جهة أخرى، تشير مذكرة صادرة عن مصرف "آر بي سي كابيتال ماركتس" الكندي في يونيو الماضي، إلى أن الإدارة الأمريكية انخرطت في التواصل مع المنتجين المحليين والأجانب الرئيسين لتأمين إمدادات السوق، في حال تراجع الإنتاج الروسي من النفط بسب التطورات الأخيرة، وذلك تحوط سابق لأوانه من قبل واشنطن في ضوء انتفاء التهديدات المباشرة لإمدادات النفط الروسية، لكنه يعكس قدرا من عدم اليقين الناجم عن التمرد العسكري لفاغنر وتأثيره المحتمل في سوق النفط العالمية.
كما من المرجح أن يستمر التعاون الوطيد بين روسيا و"أوبك" في إطار تحالف "أوبك +"، لأنه من مصلحة الطرفين استئناف سياسة سقف الإنتاج لدعم استقرار السوق وتعزيز توازن النفط، في ظل ترقب منظمة "أوبك" بجدية التطورات الأخيرة في روسيا، تحسبا لحدوث أي مستجدات، لن تؤثر في السياسة الإنتاجية لروسيا فقط، بل أيضا في أهداف تحالف "أوبك +" برمتها.
شكك المراقبون في بداية الحرب الروسية الأوكرانية بمقدرة روسيا على دعم استقرار إنتاج النفط، ولا سيما مع حظر الاتحاد الأوروبي منتجات الطاقة الروسية وفرض سقف سعري عليها لاحقا، كما لم يتأثر إنتاج النفط الروسي سوى بشكل هامشي، وضخت موسكو نحو 9.45 مليون برميل يوميا من النفط الخام في أيار (مايو) من العام الحالي، دون تغيير كبير عن إمدادات العام الماضي.
كما زاد الحظر الأوروبي على منتجات الطاقة الروسية اليقين لدى بعض المحللين بأن صادرات الطاقة الروسية ستتراجع بشدة في الأمد القصير، إلا أن هذا لم يحدث، وأعادت موسكو توجيه تدفقات النفط إلى أسواق الاستهلاك في آسيا بدلا من أوروبا، وحتى مايو 2023، بلغ إجمالي صادرات النفط الروسي "النفط الخام والمنتجات المكررة" نحو 7.8 مليون برميل يوميا، طبقا للوكالة الدولية للطاقة، دون تغيير إلى حد كبير عن 2022، واللافت أن الصين والهند استحوذتا معا على أكثر من نصف الصادرات الروسية في هذا الشهر.
كما أسست موسكو شراكة مربحة مع منظمة "أوبك" لدعم استقرار سوق النفط عبر سياسة خفض الإنتاج. ومع ذلك، تعرض التعاون المشترك بين الطرفين لاختبار قوي عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، حيث سعت موسكو لضخ كميات كبيرة من النفط الخام لتعويض تراجع صادراتها إلى أوروبا، وتراجع سعر خامها الرئيس "أورال" بسبب السقف السعري الأوروبي.
ونجحت موسكو في التزامها بإنتاج النفط على الرغم من الأزمات التي شهدتها الحرب الروسية الأوكرانية، إضافة إلى تمرد فاغنر العسكري، إلا أنه لا يمكن تجاهل ما جرى وما سيجري فيما يتعلق بحجم صادرات النفط الروسية.