ألمانيا .. شبح عودة البوندسفير يزعج الأوروبيين
نجحت الحرب بين روسيا وأوكرانيا في إسقاط تلك البقية الباقية من تركة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فمنذ اندلاعها إلى اليوم تم تجاوز قائمة من الخطوط الحمراء، في اتجاه إعادة تشكيل عالم آخر بقواعد جديدة، غير تلك القائمة منذ أيام الحرب الباردة. فالظاهر أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دفع أوروبا، قسرا لا طوعا، نحو تدشين فصل جديد في تاريخها، يقطع مع خطط ورؤى واستراتيجيات لمصلحة أخرى بديلة، تأخذ في الحسبان تطورات الوضع على مسرح الأحداث العالمي.
تبقى قاعدة "التغيير من خلال التجارة" إحدى القواعد التي سقطت جراء هذه الحرب، فالاستثمار الألماني الطويل الأمد في هذه القاعدة أضحى في خبر كان، بعدما راهنت الدبلوماسية الألمانية بقوة عليها، فلدى برلين قناعة راسخة بـ"المزايا الاقتصادية لنظام عالمي متعدد الأطراف، يفضل التجارة على الهيمنة". وكان هذا واضحا في سياسة ألمانيا الخارجية تجاه روسيا، فحتى خلال لحظات ارتفاع مستوى العدائية في خطاب بوتين، آمنت برلين بأن التبادل الاقتصادي بين الدولتين أداة ناعمة للدفع نحو التحول الديمقراطي أو على الأقل منع الأعمال العدائية.
اختارت برلين هذا الخيار أملا في تخفيف وطأة ذاكرة مثقلة، منذ الحرب العالمية الثانية، فعمدت إلى تبنيه ضابطا يحكم علاقاتها الخارجية مع الجميع، بما في ذلك الخصوم، فبعد موسكو جاء دور بكين، قبل أن يقرر بوتين إنهاء كل شيء، بإعلانه التدخل العسكري في أوكرانيا. ما أجبر الألمان على مراجعة خططهم وأوراقهم، فالرهان على القوة الناعمة فشل فشلا ذريعا، وحان الوقت لإحياء القوة الصلبة.
استراتيجية قومية دفاعية
أعادت روسيا القارة الأوروبية عموما، وألمانيا بوجه خاص، إلى ما يعرف بتعبير الأكاديمي البريطاني، لويس فراي ريتشاردسون، بمسار "الفعل – رد الفعل" فيما يتعلق بشؤون الدفاع. فكل خطوة من جانب دولة ما (الفعل) لا بد أن تقابلها أخرى مماثلة (رد الفعل)، تعزيزا للأمن وضمانا للحماية. فانطلق السباق نحو التسلح داخل أوروبا وفي بقية دول العالم، حيث سجل الإنفاق العسكري العالمي زيادة 3,7 في المائة، بما في ذلك دول تخضع في تسليحها لقيود، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ما أعاد إلى الواجهة مقولة المؤرخ بيير رينوفان، عن معضلة التسلح، "أي حد من التسلح لا يمكن تصوره طالما أن أسباب الحرب لم تبدد".
نجح الألمان في نسج تحالف حزبي، بين أحزاب كانت دوما مشككة في الحروب وأولوية الأمن، داخل البرلماني الألماني البوندستاج ضم أحزاب الائتلاف الحاكم (الديمقراطي الاجتماعي، الخضر، والليبرالي) والمعارضة (الاتحاد المسيحي، والاتحاد الديمقراطي)، باستثناء حزبي اليسار والبديل، بشأن مراجعة القواعد التي تؤطر مسائل الدفاع وقضايا الأمن القومي الألماني، بما فيها تعديل الدستور - وبأغلبية مطلقة (567/726) - لإضافة فقرة جديدة (87 أ) تسمح بتسليح الجيش الألماني.
هكذا صاغت الجمهورية الاتحادية، لأول مرة في تاريخها، استراتيجية للأمن للقومي أعلنها المستشار أولاف شولتز، في 14 يونيو الماضي، بالتزامن مع انطلاق مناورة "الدفاع الجوي 23" في سماء أربع دول (ألمانيا والتشيك وإستونيا ولاتفيا) بقيادة عسكرية ألمانية، ومشاركة أزيد من عشرة جنود و250 طائرة عسكرية من 25 دولة من أعضاء الناتو والبلدان الشريكة للحلف (السويد واليابان)، في واحدة من أكبر تدريبات سلاح الطيران منذ تأسيس الحلف.
عد مراقبون هذه الاستراتيجية بمنزلة صحوة ألمانية في مجال الدفاع، فهذه أول مرة تطرح فيها الحكومة الفيدرالية رؤية متكاملة، في نحو 40 صفحة، تتجاوز ثغرات الكتاب الأبيض الذي كان بمنزلة الورقة التوجيهية لسياسة الدفاعية الألمانية، نحو تصور شمولي يقطع مع الطابع المحافظ لسياسة برلين، ويؤسس لما تسميه الاستراتيجية "الأمن المتكامل لألمانيا".
يبقى المثير في هذه الصحوة أن أهدافها تتعدى حدود ألمانيا نحو عمق القارة العجوز، وكان المستشار الألماني أولاف شولتز واضحا وصريحا بهذا الشأن، حين قال: "الهدف من الاستراتيجية واضح، ضمان أمن المواطنين والمواطنات وتأدية دورنا في حماية أمن أوروبا". وزاد وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، الثلاثاء الماضي في ليتوانيا، في كشف النوايا عند حديثه عن إحداث نقط تحول في أدوار برلين الدفاعية بأوروبا، "نعترف صراحة بمسؤوليتنا والتزاما كدولة عضو في الناتو لديها أكبر اقتصاد في أوروبا بالدفاع عن الجناح الشرقي للحلف".
كلام أرق صناع القرار في أكثر من عاصمة أوروبية، فهو بمنزلة رسالة عن شروق جديد لشمس ألمانيا على سموات أوروبا، واستعداد جلي من برلين للاضطلاع بأدوار استراتيجية، عسكرية وأمنية، تضمن مواءمة مكانتها السياسة بقوتها الاقتصادية.
عودة البوندسفير
أواخر مايو 2022، اعتمدت الحكومة الألمانية ميزانية قدرتها 100 مليار يورو، لإعادة هيكلة الجيش الألماني، وتحديثه وتسليحه، فضلا عن خطة لرفع مخصصات الدفاع إلى 2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي السنوي، أي ما يعادل 70 مليار يورو بدلا من 56 مليار في السابق. وكشف كريسيان ليندنر، وزير المالية، عن هدف هذه الميزانية الضخمة، بحديثه عن السعي لامتلاك ألمانيا أحد أقوى الجيوش قدرة في أوروبا خلال هذا العقد. يذكر أن برلين سادس دولة تصدر الأسلحة في العالم، حسب ما جاء في تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، بعد كل من واشنطن وباريس وموسكو وبكين وروما.
كان صعود القوة الألمانية، عبر التاريخ، مرادفا لتغيير التوازن الجيوسياسي الأوروبي والعالمي، فتسليح ألمانيا ارتبط في الذاكرة الأوروبية بإشعال الحربين العالميتين، ما يثير مخاوف بشأن ما يجري في ألمانيا. وتزداد المخاوف مع توالي اعترافات مسؤولين ألمان كبار مثل الرئيس فرانك فالتر شتاينماير، مهندس السياسية الألمانية تجاه روسيا حين كان وزيرا للخارجية في عهد المستشارة أنجيلا ميركل، بارتكاب أخطاء "لقد تمسكنا بالجسور التي لم تعد روسيا تؤمن بها والتي حذرنا شركاؤنا منها، لقد فشلنا في بناء منزل أوروبي مشترك يضم روسيا".
فهل تكون الحرب في أوروبا، التي "أصبحت واقعا من جديد"، حسب الجنرال إبرهارد زورن، المفتش العام للقوات المسلحة الألمانية، سببا وراء ظهور جمهورية الرايخ الرابعة، بعد الجمهورية الأولى التي كانت لشارلمان والثانية لبسمارك والثالثة لهتلر. ويزيد أكثر من مؤشر في الواقع من رجحان هذه الفرضية، لعل أبرزها انشغال واشنطن بالصراع مع بكين حول مستقبل النظام العالمي، فضلا عن تزايد حدة التنافس بين برلين وباريس على الانفراد بمهمة حارس القارة الأوروبية، مستغلتين الفراغ الذي خلفه خروج بريطانيا من النادي الأوروبي.
يظهر أن استعادة أمجاد الجيش الألماني، على اعتبار أنه من أقدم الجيوش الحديثة في القارة الأوروبية فتاريخ تأسيسه يعود لعام 1871، حين توافد أمراء الولايات الألمانية على فرنسا ليعلنوا توحيد الولايات تحت دولة وجيش موحدين، يرمي من ناحية أولى إلى معادلة الثقل الاقتصادي بما يقابله على الصعيد العسكري، مع ما يحمله ذلك من رسائل بدلالات قوية حيال باقي الدول في النادي الأوروبي. ويهدف من ناحية ثانية، إلى قطع الطريق أمام فرنسا، القوة النووية الوحيدة في أوروبا، للانفراد بمهمة الدفاع عن القارة العجوز، خاصة أن ألمانيا كانت من أشد معارضي مقترح فرنسا لإنشاء الجيش الأوروبي الموحد.
طموح إعادة البوندسفير إلى الواجهة تؤكده استراتيجية الأمن القومي، التي كشفت عنها ألمانيا، لكونها أقرب إلى قبول التكليف بقيادة الناتو في إدارة الصراع مع روسيا منه إلى مجرد رؤية دفاعية قطرية. فهل يتحقق لها هذا الطموح، مع تزايد حدة الأحلاف داخل تجمع الناتو؟ وهل تنجح في الاضطلاع بهذه المهمة، دون تكرار سيناريو "تسليح ألمانيا" يعني "إشعال الحرب"؟