الاقتصاد غير النفطي .. كيف تفننت الرياض بعيدا عن الذهب الأسود؟

الاقتصاد غير النفطي .. كيف تفننت الرياض بعيدا عن الذهب الأسود؟
الاقتصاد غير النفطي .. كيف تفننت الرياض بعيدا عن الذهب الأسود؟

حان فصل الصيف، وهو موعد مهم للآباء والأمهات الذين يستمعون بانتباه إلى أحاديث أبنائهم خلال الموسم الحار، ليس لأن درجة الحرارة تبقيهم في المنزل، بل لكون المرحلة حساسة للغاية تتطلب مساعدة الابن في اختيار مسار جامعي يمكنه من نيل وظيفة مستقبلية مرموقة. إذ يبدو من العالم الخارجي كل شيء مغريا في الداخل السعودي. قطاع الترفيه صاعد بقوة، وإمكانية إتقان لغات أجنبية تسهم في العمل في قطاعي الضيافة والسياحة، أما مجال الرقمنة والأمن السيبراني والتكنولوجيا وإنترنت الأشياء، فهو عالم مذهل بلا شك وأنت ترى المملكة تتصدر جميع المؤشرات العالمية.
في حقبة التسعينيات، كان جيل السعوديين القادرين على العمل ضمن متوسط فترة زمنية عمرها 20 عاما، معظم طموحهم في العمل ضمن الوظائف المتاحة خاصة الحكومية، ولا سيما إذا لم تمتلك طموحات بأن تصبح طبيبا أو مهندسا أو طيارا يحلق في السماء. آنذاك عمل بعضهم في حقول النفط ومشتقاته، سواء شركات الزيت والغاز أو التكرير، والآخرون في القانون والمحاسبة والتعليم، قلة من اختاروا مجال المال والأعمال، ربما لندرة الفرص الوظيفية الإبداعية. بيد أن اليوم تستحوذ الحيرة على جيل الشباب.. في أي مسار واتجاه وظيفي يذهبون؟. فبعد رؤية الأمير محمد بن سلمان ولي العهد 2030، أصبح السعوديون يصلون إلى الفضاء، ويبتكرون التقنيات، ويوطنون الصناعات العسكرية، ويجعلون من الجزر منتجعات سياحية، ويستقطبون أفضل نجوم العالم في كرة القدم لصناعة بيئة ترفيهية، ويجوبون العالم لحل النزاعات السياسية، حتما لا يمكن اختيار مهنة وظيفية واحدة بسهولة، فوصفة النجاح التي أعلنت في مؤتمر الرؤية 2016 بعيدا عن النفط، أدت إلى خيارات كثيرة أفضل في مستقبل لونه أخضر يزهو بالفخر.
هذا بالضبط ما أحدثه الاقتصاد غير النفطي في السعودية، والذي يمكن وصفه بقصة نجاح مذهلة ليس لأنها حققت المطلوب فقط، بل لأن قصر مدة التنفيذ فاقت التوقعات، ولنعود إلى المفهوم نفسه، والمقصود به هو الاقتصاد القائم على مجالات عمل غير نفطية، وهو مسار اتخذته المملكة لتنويع استثماراتها من ناحية، ولوضع نفسها على الخريطة العالمية في جميع القطاعات من ناحية أخرى.
لكن النجاح لا يتحقق بمجرد الرغبات، قاعدة طبقتها المملكة من خلال الأمير محمد بن سلمان ولي العهد حين أجرى مقابلة حصرية لقناة "العربية" في 2016، أعلن فيها خطة طموحة لتحرير الاقتصاد من الاعتماد على النفط، وإحداث إصلاحات جذرية في هيكلة الاقتصاد السعودي وإغلاق منافذ الفساد، وتعزيز الشفافية والرقابة، إضافة إلى تخصيص قطاعات اقتصادية مهمة، وهو ما عده البعض دربا من الخيال، إذ كيف ستنجح السعودية وتوفر فرص عمل للسعوديين وتحسن أحوالهم المعيشية دون الاعتماد على أهم سلعة لديها؟
ولأن زلزالا اقتصاديا كهذا لا يمر دون التوقف عنده، تسارعت الدول ووكالات الأنباء العالمية لتفهم من ولي العهد المقصود أكثر، ليوضح بعد ذلك في مقابلة مطولة أجراها مع شبكة "بلومبيرج"، أن الاقتصاد غير النفطي سينطلق من خلال خطوتين، الأولى جعل صندوق الاستثمارات العامة المسؤول عن أهم وأكبر استثمارات المملكة داخليا وخارجيا، والثانية تحويل أرامكو السعودية إلى شركة مساهمة من خلال طرح نسب منها للاكتتاب العام، إضافة إلى عدة قطاعات تم تحديدها لتقود الاقتصاد غير النفطي، مثل التكرير والبتروكيمياويات والمقاولات والإنشاءات والتعدين، بجانب مجالات أخرى كالترفيه والسياحة وإعادة الهيكلة الحكومية وتشجيع الاستثمارات الأجنبية.
لم يتأخر التنفيذ طويلا، وهو ما يعني أن الحديث كان مجرد إعلان خطوات سرعان ما بدأت في 2019 بطرح أسهم لأرامكو بغرض الاكتتاب العام، لتتمكن جوهرة الصناعة النفطية من جمع 29 مليار دولار في طرحها الأولى محققة بذلك رقما قياسيا في تاريخ البورصات العالمية، أما قطاع التعدين فوصلت أرباحه إلى 724 مليون خلال عشرة أشهر فقط من 2021، فيما أصدرت وزارة الصناعة والثروة المعدنية في المدة نفسها 69 رخصة تعدينية ليصل إجمالي الرخص السارية إلى 1913 رخصة مهمتها النهوض بالثروات الطبيعية للبلاد بعيدا عن النفط.
هل توقفت الأرقام القياسية؟ الإجابة لا، فمن نجاحات التعدين إلى طفرة الاستثمار الأجنبي في المملكة والذي ارتفع في 2019
بنسبة 20 في المائة عن العام الذي سبقه، فيما وصل حجمه إلى 2403 مليارات ريال بنهاية 2021، وبالتوازي مع ذلك كان التحديث في البنية التحتية للمؤسسات والهيئات على قدم وساق حتى صنفت السعودية الثانية عالميا بين دول مجموعة العشرين ضمن تقرير التنافسية الرقمية، والمركز الـ52 في مكافحة الفساد بحسب منظمة الشفافية الدولية وهو مركز تسبب في إقبال المستثمرين لإدراكهم أنهم سيعملون في مناخ صحي وبطريقة رقمية آمنة وقوانين تسري على الجميع، ولذلك لم يكن غريبا أن تنمو أصول صندوق الاستثمارات العامة 23 في المائة بنهاية 2021، لتتخطى 2.5 تريليون دولار.
بالتأكيد هذا غيض من فيض لملحمة لا تتسع لها سوى المجلدات التي ستوضح كل خطوة في بناء هرم النجاح، لكن ما نستطيع قوله أيضا إن كل عام تقدم فيه الاقتصاد غير النفطي أحدث أثرا ملموسا وسريعا، فخلال 2018 بلغت نسبة البطالة في السعودية 13 في المائة لكن بسبب رفع كفاءة الأجهزة الحكومية ومشاريع صندوق الاستثمارات العامة انخفضت النسبة إلى 11.8 في المائة.
ولأن قدر الأحلام الكبيرة تحديات أكبر، جسد فيروس كورونا أول اختبار حقيقي للاقتصاد غير النفطي، فمن ناحية ارتفعت نسبة البطالة في العالم إلى 20 في المائة وتراجعت معدلات الإنتاج بسبب توقف المصانع، ما ترتب عليه انخفاض في الاستهلاك العالمي للنفط، وفي ظل معاناة الدول بما فيها الكبرى، كان اللافت أن تنجو السعودية من هذا المأزق رغم انخفاض إيرادتها النفطية إلى 410 مليارات ريال بعد أن كان المتوقع 833 مليار ريال.
وكانت كلمة السر كما أوضح الأمير محمد بن سلمان، هي الإيرادات غير النفطية التي ارتفعت إلى 360 مليار ريال في 2020، وهكذا نجحت الرؤية السعودية وسط معاناة الجميع.
والآن، بعد ثلاثة أعوام، تتخذ السعودية قرارا بمواصلة تخفيض الإنتاج اليومي بنحو مليون برميل حفاظا على استقرار الأسعار، ما دفع تقارير صحافية إلى الزعم بأن ذلك سيؤدي إلى انكماش في اقتصاد المملكة، وهو ما نفاه صندوق النقد الدولي الذي أكد أن الاقتصاد غير النفطي بأرباحه التي وصلت إلى 2.3 تريليون ريال في 2022 بما يعادل 61.1 في المائة من الناتج المحلي للمملكة الذي بلغ 4.2 تريليون ريال في العام نفسه بحسب هيئة الإحصاء، قادر على الحفاظ على قوة الاقتصاد السعودي حتى بعد تخفيض النفط، وإذا كان المستهدف أصلا وصول نسبة الاقتصاد غير النفطي إلى 65 في المائة عام 2030. وهنا السؤال الذي يطرح نفسه: متى يعترف العالم بأن السعودية هي النمر الآسيوي الجديد وإن كان نمرا أسرع وأقوى كثيرا من النمور القديمة التي احتاجت إلى عقود للنهضة بينما تمكنت المملكة من ذلك خلال عقدين، بل أقل بحسب تأكيد ولي العهد، بأن الناتج المحلي غير النفطي بمنزلة مؤشر رئيس لنجاح خطط المملكة الاقتصادية.

الأكثر قراءة