استراتيجية ألمانية جديدة للتعامل مع الصين
تتواصل المخاوف الأوروبية من النفوذ الصيني في العالم بمختلف أنواعه وأشكاله، ما دفع البعض منها للتعامل مع الملف الصيني كأولوية في ظل التحالف الصيني الروسي، وأثره في الحرب الروسية الأوكرانية وتبعاتها على القارة الأوروبية، حيث بادرت الدولة الألمانية باتخاذ إجراء للمرة الأولى في تاريخها بإصدار استراتيجية خاصة للتعامل مع الصين.
وتستند الاستراتيجية الألمانية على عدد من الركائز أبرزها استمرار المخاوف من بكين، تقليص الاعتماد عليها، وكذلك مبدأ المعاملة بالمثل، إضافة إلى تأكيد التعامل مع تايوان، كما تتضمن الاستراتيجية عددا من المسارات منها تنويع سلاسل الإمداد، وتعزيز توطين الصناعات التقنية، إضافة إلى موازنة الصعود الصيني على المستوى العالمي، وكذلك حث الصين على التوافق مع المنظومة الأممية.
وشهد إصدار الاستراتيجية خلافات في الداخل الألماني، يدل التأخر في صياغتها وإصدارها في شكلها الأخير على وجود تجاذبات في وجهات النظر داخل الحكومة الألمانية، خصوصا بين المستشار الألماني أولاف شولتس، ووزيرة خارجيته أنالينا بيربوك، حيث دعت الوزيرة المحسوبة على حزب الخضر إلى اتخاذ موقف أكثر تشددا حيال بكين، والتركيز أكثر على حقوق الإنسان، فيما ساند شولتس الموقف الأكثر ليونة.
كما امتد الخلاف إلى الأطراف أصحاب المصلحة داخل ألمانيا، نتيجة للخلاف ما بين أصحاب المصالح الاقتصادية وأنصار القيم السياسية، الأمر الذي قد يتسبب في أضرار بالمصالح الألمانية اقتصاديا تحديدا المرتبطة بالصين.
بدورها، رحبت الشركات والجمعيات الصناعية الألمانية بالاستراتيجية، لما تتضمنه من تأكيد على استمرار التعاون دون قطيعة مع الاقتصاد الصيني.
إلى ذلك، تحرص برلين على مراعاة التوازن بين مصالحها الاقتصادية مع الصين، وكذلك مع الاتحاد الأوروبي بفعل احتياج اقتصادها للنفاذ لكلتا السوقين، لذا جاءت الاستراتيجية بمبادئ وتوجهات تعكس رغبة برلين في المضي قدما مع سياسات الاتحاد الأوروبي دون حياد عنها بما لا يجعل السياسة الألمانية متناقضة مع نظيرتها الأوروبية، بل متكاملة معها.
وتطرقت الاستراتيجية الألمانية إلى استمرار مخاوف برلين تجاه ملف انتهاكات حقوق الإنسان في الصين، وكذلك التقارب الصيني الروسي، الذي يهدد الأمن القومي الأوروبي والألماني، فضلا عن مساعي الصين للهيمنة الإقليمية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وكذلك ممارسات الإكراه والهيمنة الاقتصادية لتعزيز مصالحها ونفوذها الدولي، إضافة إلى تنامي الدور الأمني والعسكري للصين حول العالم.
توجه الاستراتيجية الألمانية الانتباه لجميع ممارسات واستثمارات الصين، التي قد تحمل في طياتها تهديدا للأمن القومي الألماني والأوروبي، مسلطة الضوء، على ممارسات التجسس والاختراق وحملات التضليل في الفضاء السيبراني.
على صعيد المعاملة بالمثل، نوهت الوثيقة إلى ما تشهده الشركات الألمانية من تمييز ومضايقات في السوق الصينية، وما تشهده المؤسسات المالية الصينية من تضييق في أوروبا، مقدمة حلا لذلك بأن تقوم الحكومة الألمانية بتسهيل وصول المؤسسات المالية والمصرفية الصينية للبنوك وشركات التأمين في السوق الأوروبية وتوسعها في قطاع الخدمات المالية، مقابل أن تقوم الحكومة الصينية بما من شأنه التيسير على الشركات الألمانية والأوروبية للعمل والاستثمار في السوق الصينية.
أما في ملف التوازنات الألمانية عبر التنسيق بين ألمانيا وأوروبا من جهة، وبين ألمانيا والصين من جهة أخرى، هدفت الاستراتيجية إلى تقليص نقاط الخلاف والحفاظ على قنوات الاتصال مفتوحة، في الوقت الذي ذهبت فيه الاستراتيجية إلى تنويع واردات الحكومة الألمانية من المواد الخام والمنتجات الأولية.
وتعتمد برلين بشكل كبير على الصين وحدها، كما تعول الحكومة الألمانية على أدوات التجارة الخارجية والاستثمار والتعاون الإنمائي لتحقيق هذا الهدف، ولتعزيز شراكاتها مع الدول الموردة للمواد الخام لتأمين المخزون الاستراتيجي من تلك المواد، مع العمل على زيادة الإنفاق على البحوث والتطوير لتقليل استهلاك المواد الخام وإحلالها بالمواد المحسنة والمعاد تدويرها على نحو يتوافق مع التوجهات والمعايير البيئية الأوروبية، لتعزيز القيمة المضافة للتصنيع الأوروبي المحلي، وكذلك تعزيز قدرات التصنيع لدى الشركاء ممن يتم استيراد المواد الخام منهم عبر استيرادها في صورتها غير الأولية.
ونصت الاستراتيجية الألمانية على تجنب ألمانيا والاتحاد الأوروبي الاعتماد في الصناعات التكنولوجية المتقدمة على الصين التي لا تتوافق معهم قيميا، وذلك عبر تعزيز القدرة على الابتكار والارتقاء بتوطين تلك الصناعات والتقنيات وبراءات الاختراع، مع العمل على تجنب مساعي الصين لإحكام هيمنتها وانفرادها بهذا المجال وفقا لاستراتيجيتها القومية 2025، هذا إضافة إلى دراسة سبل توجيه الاستثمارات في السوق الأوروبية في هذا المجال، وتطوير لوائح حماية البيانات.
وفي ملف موازنة الصعود الصيني عالميا، تستهدف ألمانيا إقامة نظام عالمي تعددي في ظل احتدام وتيرة التنافس الصيني الأمريكي، وتدرك القيادة الألمانية أن مبادرة الحزام والطريق تعكس تحركات الصين نحو تعزيز هيمنتها ونفوذها العالمي، في ظل عدم وجود شريك إنمائي بديل يمكن للدول النامية اللجوء إليه، وهو ما تسعى ألمانيا نحوه بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي من أجل إيجاد مسار تنموي بديل تلجأ إليه الدول النامية للحصول على قروض، مثل التي تمنحها الصين، إضافة إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية لألمانيا وأوروبا مع مختلف الأطراف التي لديها علاقات قوية بالصين كدول المحيطين الهندي والهادئ والدول الآسيوية والإفريقية.
وفي سياق متصل، رحبت تايوان بالاستراتيجية الألمانية، ورأت أنها تعكس مزيدا من الاهتمام الدولي بقضية تايوان والمخاطر الصينية إزاءها، وأنها يمكن أن تكون خطوة من شأنها أن تمهد السبيل نحو تدشين علاقات وثيقة بين البلدين.
في السياق ذاته، حذر وانغ وين بين المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، مما تحمله الاستراتيجية الألمانية تجاه الصين من سوء تقدير للصعود الصيني، عادا إياها موقفا حمائيا هادما للتعاون، وقد يأتي بنتائج عكسية، على الرغم من تأكيد ألمانيا سياسة الصين الواحدة، والتي أكدت عبرها استمرار علاقتها بالشريك التايواني ومراقبة التحركات الصينية تجاهه، فضلا عن التخوف من أن يكون الاهتمام الألماني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ ستارا لتمدد حلف الشمال الأطلسي "الناتو" بهذا الإقليم.