الانقلاب في النيجر .. عدوى إقليمية أم انقسام داخلي؟

الانقلاب في النيجر .. عدوى إقليمية أم انقسام داخلي؟

لا تزال تداعيات الانقلاب العسكري في النيجر مستمرة، بسبب تباين مواقف دول منطقة غرب إفريقيا حول خيار التدخل العسكري لإعادة الرئيس المخلوع محمد بازوم إلى السلطة، بعد تجاهل القادة الجدد دعوات زعماء الدول بالعودة إلى الحكم المدني، وانتهاء كل محاولات الوساطة بين الطرفين بالفشل. فجاء قرار قادة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس"، معلنا التهديد باستخدام القوة، إن اقتضى الحال، لإعادة النظام الدستوري إلى البلاد، في ختام قمتهم الطارئة حول النيجر.
خيار محفوف بالمخاطر في ظل التمايز الواضح بين دول تدعم الرئيس الشرعي الذي دشن أداؤه اليمين الدستوري، في الثاني من أبريل 2021، بمنزلة "ثورة صغيرة" في أول تداول سلمي على السلطة منذ استقلال النيجر عن الاستعمار الفرنسي في 1960. ودول أخرى تؤيد قادة العسكر، أي الحكام الجدد، باعتبارهم زعماء تحرير دول المنطقة من ويلات استعمار واستغلال ونهب غربي لثروات وخيرات الدول الإفريقية.
يزيد الروايات المتداولة لتفسير ما يجري هناك، المشهد داخل البلد وفي المنطقة برمتها غموضا والتباسا، فالأحاديث كثيرة حول دواعي الانقلاب في دولة غنية بمواردها، فمساحتها خمس أضعاف مساحة المملكة المتحدة، ورأسمال بشري يصل إلى 27 مليون نسمة، مع مراكز متدنية في مؤشر التنمية البشرية، فأحدث الأرقام تتحدث عن ارتفاع ضحايا انعدام الأمن الغذائي الحاد من 1،9 مليون شخص إلى 4،3 مليون شخص في 2023.

فرضية عدوى الانقلابات
شهدت النيجر فجر الأربعاء في 26 من يوليو الماضي انقلابا عسكريا، تولت تنفيذه مجموعة عسكرية أطلقت على نفسها "المجلس الوطني لحماية الوطن"، انضمت بموجبه إلى قائمة الدول التي عرفت انقلابا في منطقة الساحل، خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، بعد كل من مالي (2020 و2021) وبوركينا فسو (2022) مرتين، فضلا عن انقلاب في كل من غينيا (2021) وتشاد (2021) والسودان (2021).
برر رجال الجيش تحركهم، في بيان بث على التلفزيون الرسمي، بأنه "يأتي على أثر استمرار تدهور الوضع الأمني وسوء الإدارة الاقتصادية والاجتماعية"، وأشاروا إلى "تعليق كل المؤسسات المنبثقة من الجمهورية السابعة"، فضلا عن إسناد إدارة الوضع إلى قوات الدفاع والأمن، وطالبوا "من جميع الشركاء الخارجيين عدم التدخل". تثبت تلك المبررات، بشكل واضح، تشابها في سيناريوهات سقوط الأنظمة الحاكمة، مع تأكيدها صحة نظرية "عدوى الانقلابات" في المنطقة.
رغم كون النيجر تحديدا في غنى عن أي إثبات لهذه النظرية، فالانقلابات شكلت جانبا مهما من التاريخ السياسي لهذه الدولة، فآخر انقلاب ناجح، كان في فبراير 2010، أطاح حينها بالرئيس المنتخب مامادو تانجا أثناء اجتماع حكومي. وقبل عقد، وبالضبط في التاسع من أبريل 1999، جرى انقلاب على الرئيس إبراهيم باري مناصرة، الذي تولى الحكم بدورة عن طريق انقلاب، قاده في 27 يناير 1996، أطاح بأول رئيس منتخب ديمقراطيا في النيجر، وهو عثمان ماهاماني، بعد ثلاثة أعوام قضاها في الحكم. دون تعداد المحاولات الانقلابية الفاشلة التي كان للرئيس بازوم من نصيب، إحداهما في 31 مارس 2021، أي قبل يومين من أداء اليمين الدستوري، والأخرى بعد عام حين كان الرئيس في زيارة إلى تركيا.

فرضية الصراع الدولي
جعلت تطورات السياق الدولي منطقة غرب إفريقيا بؤرة للصراع، ومحور تنافس بين المعسكرين القديم "باريس، واشنطن، لندن، برلين..." والجديد "موسكو، بكين، نيودلهي، أنقرة..."، فباريس - ممثلة الأول - تدافع باستماتة عن الاستقرار، المرادف الموضوعي لاستغلال ونهب عمره عقود من الزمن. فيما تحاول موسكو - ممثلة المعسكر الثاني – تسخير جميع الأساليب الناعمة والخشنة لبسط نفوذها على أوسع نطاق داخل القارة الإفريقية.
فضلا عن ذلك، تبقى النيجر إلى جانب تشاد آخر الشركاء الاستراتيجيين الرئيسين لفرنسا في المنطقة. فقد كانت وجهة القوات الفرنسية المشاركة في عملية برخان، بعد مغادرتها مالي. كما شكلت نيامي رهان الرئيس إيمانويل ماكرون لإعادة صياغة استراتيجية فرنسا في منطقة الساحل. علاوة على أنها قاعدة استخباراتية لأكثر من دولة في المعسكر الغربي "الولايات المتحدة، ألمانيا...".
علاوة على الجانب العسكري، عملت باريس على تسويق حضورها في غرب إفريقيا بالتركيز على الجانب التنموي، فقد التزمت وكالة التنمية الفرنسية AFD باستثمار نحو 100 مليون يورو لدعم عشرة مشاريع تنموية في البلد، ما يجعل نيامي في المركز الثاني في قائمة زبائن الوكالة الفرنسية بعد السنغال. مع الإشارة إلى اعتمادها أسلوب القروض في تمويل المشاريع بدل سياسة المنح، فقد بلغت النسبة 60 في المائة بالنسبة إلى مشاريع 2022.
وتبقى الموارد الطبيعة سببا في احتدام المنافسة بين القوى الدولية الكبرى، فالنيجر رابع أكبر منتج، وسادس أكبر احتياطي، لليورانيوم في العالم. يحظى الاتحاد الأوروبي وحده بنسبة 24 في المائة منه، وتعتمد عليه باريس للحصول على 35 في المائة من احتياجاتها بهدف توليد الكهرباء. فضلا عن معدن الذهب الذي انتعش نشاط التنقيب عنه، في شمال النيجر، بدءا من 2014، حيث انتشرت مواقع البحث وغسل الذهب. وقبل ذلك، أصبحت النيجر منتجا للنفط مع نهاية 2011، بطاقة إنتاجية تقدر بنحو 20 ألف برميل يوميا، تستخرج من حقل تتولى إدارته شركة صينية.

فرضية الانقسام الداخلي
بعيدا عن العوامل الخارجية، يربط كثيرون ما يجري في النيجر بتقلبات الأوضاع في الداخل أكثر من الخارج، فالإطاحة بالرئيس محمد بازوم مرتبط، في المقام الأول، بموازين القوى داخل النظام السياسي وتعقيداته، وإن حرص القادة العسكريون على تورية ذلك، بتوجيه الأنظار نحو الخارج، من خلال التسويق لدعاية تتهم الرئيس المخلوع بالولاء والعمالة لفرنسا، مستغلين تصاعد مشاعر العداء للوجود الفرنسي في المنطقة، رغم كون سياساته استمرارا لنهج الرئيس السابق محمد إيسوفو.
دخل الرئيس محمد بازوم، منذ توليه مقاليد السلطة في 2021، باسم الحزب الاشتراكي الديمقراطي، صراعا صامتا على النفوذ في دواليب الدولة، ما وضعه في مواجهة مباشرة مع أكثر من جهة داخل النظام، في سعيه وراء تنفيذ صلاحياته الدستورية. وكان ذلك سببا وراء تأخير تعيين أعضاء الحكومة سبعة أشهر، بعد رفضه قائمة الترشيحات الوزارية التي تقدم بها الرئيس السابق، محمد إيسوفو الحاضر الغائب في الشأن النيجيري.
وشكلت محاولة الرجل تطهير بنية الدولة، بتقليص أذرع سلفه داخل المؤسسات والأجهزة، من خلال تشكيل فريق خاص يثق به ويطمئن إليه، سببا مباشرة وراء تعجيل الإطاحة به. لدرجة أن المستهدف بمحاولة العزل شخصيا كان وراء عملية الانقلاب، ونقصد هنا رئيس الحرس الرئاسي الجنرال عبدالرحمن تشياني، أكثر الرجال ولاء للزعيم إيسوفو الذي عده كثيرون أداته، غير المباشرة، لإخضاع وتطويع الرئيس الجديد.
اتضح معالم هذه الفرضية بقوة أكبر في التحولات المتسارعة في مواقف باقي أجهزة الدولة من الانقلاب، الذي تولى تنفيذه الحرس الرئاسي أو قوات النخبة فقط، دون بقية وحدات الجيش أو الحرس الرئاسي. لكن سرعان ما انقلبت الموازين بعدما أدرك الموالون للرئيس السابق في باقي الأجهزة عن احتمال استهدافهم من قبل الرئيس الجديد، فساند الجميع الانقلاب بدعوى تحصين دماء أبناء النيجر.
أيا يكن الدافع وراء الانقلاب في النيجر، وكيفما كانت مبررات أنصاره يبقى شعب النيجر الخاسر الأكبر مما يجري، فسياسة الاستقواء بالخارج، فرنسا أو روسيا، لا تنتج سوى تبعية وحماية وهمية باهظة التكلفة. مقابل ذلك بإمكان القادة تحصيل وافر الضمانات لأنظمتهم باعتماد الفعل والإنجاز لغة وحيدة لمخاطبة الجماهير القادرة على تحصين الديمقراطية مهما كانت فتية متى ذاق ثمارها.

الأكثر قراءة