طاقة الاندماج النووي .. الآفاق والتحديات
كانت عملية الاندماج النووي لتوليد الطاقة، التي تعمل بها الشمس، هدفا يحاول العلماء الوصول إليه منذ أكثر من نصف قرن، حيث يحدث الاندماج عندما يتحد جسما نواة ذوا شحنة خفيفة لتكوين نواة أثقل وتحرير كمية هائلة من الطاقة. إذا أمكن التحكم في هذه العملية وإبقاؤها مستمرة، يمكن توفير مصدر وفير من الطاقة. لكن، التحدي يكمن في الشروط المطلوبة لتحقيق الاندماج: درجات حرارة وضغوط مرتفعة للغاية تصعب تحقيقها والتحكم بها.
لكن، في الآونة الأخيرة أظهرت العناوين أن الشركات تقترب من تحقيق الاندماج النووي. ومن الواضح أن الاندماج يوفر عدة مزايا على الانشطار - التكنولوجيا النووية المطبقة حاليا. فالاندماج لا تنتج عنه نفايات إشعاعية تدوم طويلا ولا يشكل أي خطر على وقوع انصهار كارثي. ومع ذلك، ورغم التطورات، ما زال هناك كثير من العمل يتعين القيام به قبل أن يمكن عد الاندماج النووي مصدرا للطاقة قابلا للتطبيق على نطاق تجاري واسع.
في أحدث خطوة لتطوير تكنولوجيا الاندماج النووي، تم أخيرا افتتاح أكبر مفاعل في العالم في اليابان. ويأتي هذا في أعقاب تدفق هائل للاستثمارات من القطاع الخاص لتحقيق الاندماج النووي على نطاق تجاري. وتبدو الأمور أكثر تفاؤلا بعد تحقيق اختراق في العام الماضي وآخر في الصيف، بعد عقود من المحاولات الفاشلة. وتحظى هذه التكنولوجيا أيضا بدعم حكومي، حيث أعلنت الولايات المتحدة استراتيجية عالمية للاندماج النووي في قمة المناخ "COP 28" في الإمارات هذا الشهر.
يتطلب الاندماج النووي دمج نواتين خفيفتين لتكوين نواة واحدة أثقل. تطلق هذه العملية طاقة حيث إن الكتلة الإجمالية للنواة المفردة الناتجة أقل من كتلة النواتين الأصليتين، مع إطلاق الكتلة المتبقية كطاقة. تحدث تفاعلات الاندماج في حالة البلازما، وهو غاز ساخن ومشحون يتكون من أيونات موجبة وإلكترونات حرة الحركة. اكتشف العلماء إمكانية الاندماج النووي لأول مرة في ثلاثينيات القرن الـ20، ولكن لم يحقق الباحثون اختراقات في هذا المجال حتى وقت قريب.
وإذا تم تحقيق الاندماج النووي على نطاق واسع بالقدر الكافي، فمن الممكن أن يوفر طاقة نظيفة وآمنة وبأسعار معقولة للاستجابة للطلب العالمي المتزايد على الطاقة. ومن الممكن أن ينتج عن كل كيلوجرام طاقة ما يعادل أربعة أضعاف ما ينتجه الانشطار النووي - الشكل الحالي لإنتاج الطاقة النووية، وما يقرب من أربعة ملايين مرة من الطاقة التي ينتجها حرق الفحم. تستخدم معظم آلات الاندماج قيد التطوير الديوتيريوم، الذي يمكن استخلاصه بتكلفة زهيدة من مياه البحر، والتريتيوم، الذي يمكن إنتاجه من تفاعل النيوترونات الناتجة عن الاندماج مع الليثيوم الموجود بشكل طبيعي.
أخيرا، تم افتتاح أكبر مفاعل للاندماج النووي التجريبي التشغيلي على مستوى العالم في منطقة ناكا، شمال طوكيو، في اليابان. ويتكون المفاعل المعروف باسم JT-60SA من ستة طوابق من وعاء توكاماك tokamak على شكل كعكة دائرية، وسيحتوي على بلازما يتم تسخينها إلى 200 مليون درجة مئوية. وسيتم اختبار المشروع، الذي ينفذه الاتحاد الأوروبي واليابان قبل مشروع أكبر - المفاعل التجريبي النووي الحراري العالمي ITER، الذي هو قيد الإنشاء حاليا في فرنسا.
لكن، هذا المشروع تعرض لانتقادات بسبب تجاوزه الميزانية وتأخره عن الجدول الزمني واضطراره إلى التغلب على التحديات الفنية. ولكن، إذا نجح الأمر، فقد يؤدي إلى تطوير مفاعلات أكبر، وفي نهاية المطاف توفير طاقة وفيرة. وقد تم تطوير المشروع من قبل أكثر من 500 عالم ومهندس و70 شركة من الاتحاد الأوروبي واليابان. في هذا الجانب، قال مفوض الطاقة في الاتحاد الأوروبي، إن مفاعل JT-60SA هو الأكثر تقدما في العالم، وإن إطلاقه يمثل علامة فارقة في تاريخ الاندماج. وأضاف "إن الاندماج النووي لديه القدرة على أن يصبح مكونا رئيسا لمزيج الطاقة في النصف الثاني من هذا القرن".
حتى وقت قريب، كان تطوير تكنولوجيا الاندماج النووي في يد الحكومات، خارج نطاق الشركات الخاصة. ولكن، الإنجاز الأخير الذي حققه مشروع تموله الحكومة الأمريكية شجع القطاع الخاص على الاستثمار في مشاريع الاندماج التي يمكن الوصول إليها اقتصاديا. ورغم أن مشروع ITER يمثل فرصة كبيرة للتطوير، فقد أثبت التقدم الذي تحقق في وقت سابق من هذا العام أنه ربما لم يعد التكنولوجيا الواعدة في مجال الاندماج النووي. ففي ديسمبر من العام الماضي، أعلنت منشأة الإشعال الوطني الأمريكية، أو NIF، أنها أجرت بنجاح تجربة اندماج نووي، حيث أنتجت طلقة ليزر بقوة 2.05 ميجا جول في جزء من الثانية 3.15 ميجا جول من الطاقة. كانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تحقيق زيادة صافية في الطاقة من خلال الاندماج خارج التفجير النووي الحراري، وهو أمر لم يحققه مفاعل توكاماك التقليدي بنجاح بعد. في يوليو من هذا العام، قام العلماء في NIF بتكرار اختراق الإشعال الاندماجي، ما أدى إلى إنتاج طاقة أعلى من تلك التي تم إنتاجها في ديسمبر، ما يظهر إمكانات هائلة للشركات الخاصة في مجال الاندماج النووي.
في هذا الجانب، أعلن مبعوث الولايات المتحدة للمناخ هذا الشهر في "كوب 28"، استراتيجية عالمية للاندماج النووي التي يأمل العلماء أن تشكل ثورة في مجال الطاقة مستقبلا، وتشمل الخطة 35 دولة، وتركز على البحث والتطوير وقضايا سلسلة التوريد والتنظيم. وأضاف المبعوث الأمريكي للمناخ: "هناك إمكانية تطبيق تكنولوجيا الاندماج النووي لتحقيق تغيير جذري في عالمنا". رغم أن تكنولوجيا الاندماج النووي لا تزال في مرحلة التطوير، إلا أن الاندماج يمكن أن يصب بالنفع على محطات الانشطار النووي الحالية، من خلال إنتاج كميات هائلة من الطاقة دون نفايات مشعة طويلة الأمد. ومن المتوقع أن يؤدي الجمع بين التمويل الخاص الكبير والتعاون بين الدول إلى تحفيز التقدم في تكنولوجيا الاندماج النووي. لكن، رغم هذه الجهود، إلا أن الطريق إلى اعتماد فعلي للاندماج النووي على النطاق التجاري لا يزال غير مؤكد. قد يؤدي السباق الذي يخوضه القطاع الخاص لتحقيق الاندماج إلى تحقيق تقدم تجريبي أسرع، ولكن يبدو أن خط النهاية لمحطة طاقة نووية على النطاق التجاري ما زال بعيدا.