مهرجان الكتاب والقراء .. مجد الثقافة في مجتمع قارئ
في مهرجان يختلف عن غيره من المهرجانات الأدبية، تعيش منطقة عسير مشهدا ثقافيا فريدا، من خلال مهرجان "الكتاب والقراء" بنسخته الثانية، الذي يصب تركيزه على القارئ وكل متذوق للأدب والفن والتراث، بصفته العنصر الأكثر تأثيرا في سلسلة الثقافة.
في المهرجان الذي تنظمه هيئة الأدب والنشر والترجمة، تقدم الثقافة بمفهومها الشمولي الواسع، لتستضيف زوار محافظة خميس مشيط بفعاليات لم تشهدها المنطقة من قبل، سجلت حضورا كبيرا وغير مسبوق، من خلال سبع حفلات غنائية، وعرضين مسرحيين، وثلاث أمسيات شعرية، وسبع جلسات ومناظرات، ومعرض كتاب مصغر بمشاركة دور نشر ومكتبات.
نافذة ثقافية بانورامية
رحلة عبر التاريخ مع الأدباء قدمها المهرجان لزواره، بتسليط الضوء على 12 أديبا تركوا بصمة في المشهد الأدبي في المملكة، معروفين بسيرتهم وأعمالهم التي قدموها في عالم الأدب والثقافة، إلى جانب ثلة من الفلاسفة والأدباء العالميين.
وإلى جانب العروض الأدائية التراثية، قدم مؤدون من المواهب السعودية سيرة الشنفرى وزرقاء اليمامة في عرض حي ومباشر، إلى جانب تحديات وألغاز في مسرح جريمة مستوحى من الروايات والأدب العالمي، ومسرحيات الشارع، وتحديات لمعرفة لهجات منطقة عسير، إضافة إلى منطقة "المغامرون الصغار" المخصصة للأطفال، سعيا إلى إيجاد الطفل المثقف والواعي.
المميز والفريد في مهرجان الكتاب والقراء هذا العام هو إيجاد فعاليات ثقافية ترفيهية لم تنفذ مسبقا، ومنها مسرحية السويدي التفاعلية، والقصائد بين الطرق التي تتيح تجربة تفاعلية تجمع بين الشعر والموسيقى، وتحديات أخرى لكتابة المقال والقصة القصيرة ومجاراة الشعر، ومسرح الشارع الذي تقدم من خلاله المسرحيات الكوميدية والارتجالية، ومنصات موسيقية وغنائية، وثالثة للفنون التشكيلية والنحت والحرف اليدوية، تتيح للمبدعين التواصل الإبداعي الخلاق الذي يسهم في إثراء الساحة الثقافية، ويلبي احتياج الجمهور للأدب والثقافة والفن بأسلوب جمالي فريد ومبتكر.
مناظرة .. ومطالب عاجلة بالتدوين
ملفات وموضوعات أدبية شيقة شملها البرنامج الثقافي للمهرجان، الذي صممه ويقف وراءه أدباء ومثقفون وفقا لمصادر "الاقتصادية"، من بينها جلسات حوارية حول أثر الطبيعة في صناعة السرد السعودي، ومناظرة مثيرة بين أدباء وسينمائيين عن الرواية والأفلام.. أيهما جنى على الآخر؟ والجوائز الثقافية، وأدب الراحلين، والأساطير والحكايات الشعبية، والتاريخ في الأدب والفن، والقصائد المغناة.
الجلسة التي تناولت ملف تدوين الأساطير والمرويات الشعبية ودورها في تشكيل الوعي الجمعي عبر الأدب، سجلت تفاعلا كبيرا وحضورا نخبويا، نظرا إلى محتواها وتصريحات متحدثيها، الذين طالبوا بتدوين الأساطير والمرويات الشعبية، عاجلا وقبل أن يفوت الأوان، حفاظا عليها من الاندثار والضياع، لضمان انتقالها عبر الأجيال، جيلا بعد جيل.
وفي الجلسة، أكد المفكر والناقد والأكاديمي العراقي الدكتور عبدالله إبراهيم أن ملف الأساطير والحكايات الشعبية شغله كثيرا، وألف فيه كتبا، مضيفا "ينبغي الاعتراف بأن المجتمعات التقليدية التي ننتسب لها -العربية والإسلامية التي توجد فيها تقاليد وأعراف وقيم- لا تعترف بذاكرة مدونة تودع فيها تجاربها وتخيلاتها، وإنما تتشرف وتهتم بالذاكرة الشفوية، وهي أقوى قبولا واستيعابا لرؤيات وتخيلات هذه المجتمعات، وهذه الذاكرة الحية إذا ما دونت فستقيد بمعنى وشكل، وإذا لم تدون ستختفي وتندثر، ولم نتوصل لكل منصف على الإبقاء على الذاكرة الشفوية بتدوينها أو اندثارها".
وأشار الدكتور إبراهيم إلى أنه دون مرويات سردية لا يمكن الادعاء بوجود هوية ولا ذاكرة، فتلك المرويات تحمل ذاكرة الأمم، من عرب وعجم، فلا تعرف إلا بما تتوارثه من ذاكرة وتاريخ، وليس بالدساتير وأوراق الجنسية والحدود، والأمم لا تميز بين أنواع المرويات السردية، وإنما تتوارثها كما يتوارث الأبناء آباءهم، لكن الباحثين يميزون بين ثلاثة أنواع من المرويات الشفوية، واتفقوا بالإجمال وليس على وجه التخصيص عليها، ولكل نوع خصائص عامة، وهي المرويات الأسطورية، والخرافية، والشعبية.
وتابع في حديثه "الخرافات تختلف عن الأساطير بأنها أحداثها محالية، لا يمكن أن تحدث على الإطلاق، ولا تتفاعل مع الواقع المحلي، وتعبر الثقافات، وتروى في أكثر من مكان دون أن تصطبغ بالثقافات المحلية".
وأفرد الدكتور عبدالله إبراهيم حديثه للحكايات الشعبية التي ترتبط أشد الارتباط بالوجدان الشعبي، وتعبر عن خيالات المجتمع، وتتجسد فيها البيئة المحلية، وترتبط بأعراف وتقاليد المجتمع، لافتا إلى أن المرويات - بخلاف الأساطير والخرافات - تتنامى وتتغير وتنسلخ جلودها بين فترة وفترة، ويزيد من ثرائها، بحسب الظرف التاريخي الذي تعيش فيه الأمم والمجتمعات، حتى الهزائم والمآسي موجودة في المرويات، وأبطال المرويات هم من البيئة المحلية والقومية، مثل سيرة سيف بن ذي اليزن، وسيرة عنترة بن شداد، التي طبعت في عشرات الأجزاء خلال القرن الـ19، ولم تطبع أبدا في القرن الـ20، وإنما اختزلت في بضع عشرات من الصفحات، داعيا إلى تدوين المرويات الشعبية لتبقى للأجيال المقبلة.
الأساطير تسافر
ذكر كاتب السيناريو والروائي عاصم الطخيس أن الأساطير تسافر، وكل الثقافات تشترك في الأساطير ذاتها ولكن بأسماء مختلفة، مثل الآلهة، وهناك شخصيات اقتبستها هوليوود من العرب، مثل روبن هود، وهي شخصية في الأصل عربية، وكذلك سندباد، وعلي بابا وغيرها من الشخصيات العربية التي تغيرت مسمياتها كي تناسب ثقافتهم.
وأشار إلى أنه لبقاء الأساطير والحكايات الشعبية وانتقالها للجيل الجديد، يجب تعديل اللغة فيها، فعلى سبيل المثال خضعت قصص شكسبير لتغيير اللغة كي تصبح مفهومة، بتبسيطها، مع تعديل الشخصيات لتلائم العصر الحالي، وتغيير عملية السرد القديمة، وإخضاعها لتركيب مبتكر، عن طريق الكوميكس والمسلسلات والأفلام، وحتى ألعاب الفيديو الإلكترونية.
التاريخ في الأدب والفن
في جلسة حوارية عن الأحداث التاريخية التي خلدتها الأعمال الأدبية وحولتها إلى أعمال فنية، أشارت الروائية عبير الرمال إلى أن السرد الأدبي له دور كبير في حفظ التاريخ، حيث يوثق الثقافة والتجارب الإنسانية، ويقدم رؤية عميقة للحقائق التاريخية، وأجابت في الندوة الحوارية بأن الرواية التاريخية لا تقدم حقيقة تاريخية، فهي تقدم الخيال والمتعة للقارئ، لذلك هي لا تكتب حقيقة تاريخية، ودور الرواية الخروج من جمود الشخصيات إلى شخصيات أكثر إنسانية، ويخرج من الخطاب النفعي المباشر إلى المجتمع نفسه.
وأضافت الرمال "أعتقد من أراد أن يقرأ التاريخ، فليقرأه من إبداع الروائيين والشعراء والفنانين لأنهم يقدمون التاريخ بالظروف المجتمعية التي أهملها المؤرخون".
أما الأديب والأكاديمي الدكتور فيصل السرحان، فأكد أن العلاقة بين الفن والتاريخ شديدة التماسك والتعقيد، وأسهمت الرواية في استدعاء التاريخ وجعله سائغا بين الناس، وكانت الوعاء الذي ينقل الحالة الاجتماعية، حيث تدرجت علاقة الرواية بالتاريخ من الارتهان للخطاب التاريخي إلى إعادة قراءة التاريخ من وجهات نظر متعددة، فكان أن أعادت الرواية بقدرتها على توليد الإبداع إنتاج التاريخ بزوايا متعددة، سواء بما يتوافق مع الراهن، أو مع وجهة نظر الروائي، أو من وجهة نظر شخصياته الورقية، فتوسعت قراءات التاريخ، وأضحى مشهد التاريخ حيا نابضا عاكسا لتفاصيل الحياة ومشاعر الناس بمختلف أطيافهم. وتابع الدكتور السرحان بأن الرواية هي الجنس الأدبي القادر على احتواء كل شيء، بما في ذلك التاريخ، وهما - أي الرواية والتاريخ - يتفرعان من أصل واحد وحقل واحد وهو السرد، الأمر الذي دعا كثيرا من العلماء بأن يقولوا بأن التاريخ هو رواية، ولا نجزم بكل حقائقه.