من بغداد إلى جدة .. صالح التركي شهبندر الخير وشيخ التجار
رافق والده إلى مسجد الخلفاء في بغداد لتأدية صلاة الجمعة، ثم بدأت النزهة الأسبوعية التي شملت اللعب في ساحة المدرسة المستنصرية مع الجلوس في أحد مقاهي شارع المأمون، وريثما كان الطفل مبهورًا بمئات الكتب التي لم يستطع قراءة عناوينها بعدُ في شارع المتنبي.
استثمر الأب تلك الفرصة وقصّ له عن موطنه السعودية وكيف توحدت في ظل آل سعود، الأمر الذي زرع في داخله رغبة ملحة في العودة، ليُسهم في جزء من تشكيل مشهد الجزيرة العربية الجديد، حتى نجح لاحقا بتوليه منصب أمين محافظة جدة 2018.
وُلد صالح التركي عام 1947 في بغداد، حيث كانت تعيش عائلته آنذاك، ورغم أنه كان أصغر إخوته، لكن ذلك لم يُعفِه من النظام الصارم الذي وضعه أبوه -العامل في الجيش العراقي حينها- فكان على الطفل الالتزام بقواعد المنزل دون أي خرق، فالنوم بموعد، والاستيقاظ بموعد، وهو ما أثر فيه لبقية حياته، إذ صار يعرف بالدقة والالتزام دوما، وإن كانت الطفولة المنضبطة لم تمنعه من التمتع بالعاصمة العراقية، إذ كان يُسمح له بين حين وآخر مرافقة إخوته الكِبار للتنزه وتناول الأطعمة الشعبية مثل الباجة والمثرودة حين يتوافر المال.
بمجرد أن بلغ صالح الخامسة من عمره، عاد إلى السعودية مع أسرته التي سكنت الظهران، ليبدأ أولى مراحله التعليمية حتى وصل إلى الصف الثالث الابتدائي.
وبسبب نبوغه الدراسي، وافق والده على سفره مع أخيه عبدالعزيز إلى لبنان في 1958، ليلتحق الاثنان بمدارس المقاصد الإسلامية ببيروت، وهي مدارس داخلية ظل فيها الأخوان حتى أكملا دراستهما الجامعية، وأثرت كثيرا في شخصية "صالح" فجعلته أكثر انضباطًا، ودائم التأمل والتفكير، لذلك لم يلتفت إلى مغريات العاصمة اللبنانية، فبمجرد حصوله على بكالوريوس الإدارة العامة من الجامعة الأمريكية ببيروت، سافر إلى كاليفورنيا ليحصل على الماجستير في نفس التخصص عام 1975، ثم عاد مرة أخرى إلى السعودية لكن هذه المرة بنية الاستقرار.
تحقيق الحلم والرغبة في الإنجاز، دفع "صالح" إلى العمل مباشرة، فلم ينتظر أن تأتيه الوظيفة المناسبة، بل انضم مع أخيه عبدالعزيز للعمل كبائعين في متجر يملكه شقيقهم الأكبر عبدالرحمن في مدينة الخُبر، فكان على صالح التركي أن يستيقظ مبكرا ويسير على قدميه في طقس شديد الحرارة من أجل الوصول إلى موقف سيارات الأجرة التي تنقله إلى مقر عمله، وفي هذا المتجر الذي تخصص في بيع الأقمشة، تعلم الشاب مهارات التفاوض، وإقناع العميل بالمنتج، وكيفية عقد الصفقات مع الموردين من أفراد وشركات.
في 1979 بدأ صالح أولى خطواته نحو عالم المال والأعمال، فأسس مع زميليه مراد وعماد غليمة، الشركة الوطنية للخدمات الهندسية والتسويق، وأطلقوا عليها اسما مختصرًا يتضمن أول أحرف من اسمها بالإنجليزية فكانت "نسما"، وفي نفس العام تمكّن الشباب الثلاثة من تسويق شركة كورية داخل السعودية، وأسفر ذلك عن تولي الشركة الأجنبية مشروعا هندسيا في ينبع بقيمة 50 مليون ريال، حصلت "نسما" على 2.5 % من إجمالي أرباحه.
إذا اغتنمت الفرصة الأولى فقد قطعت نصف الطريق، قاعدة طبقها صالح التركي، فبعد ضربة البداية الموفقة، اتسعت مشاريعه حتى يمكن القول إنه توسع بتجارته شرقا وغربا في السعودية، بداية من مشروع صرف مياه الأمطار في جدة وتشييد بنية تحتية قوية تحمي البيوت وقت الخطر عام 2010، مرورًا ببناء 5 مستشفيات للشؤون الصحية للحرس الوطني، بجانب المشاركة في مشروع حافلات مكة وتطوير البنية التحتية للملاحة الجوية في مطار البحر الأحمر، وتطوير محطة جنوب جدة للطاقة الشمسية بقدرة 300 ميجاوات، وتحسين إمدادات المياه في الرياض، وصولًا إلى المشاركة في مشروع جبل عمر.
بالتزامن مع تلك المشاريع، تعددت شركات التركي التي أسسها لأغراض ومجالات محددة، مثل: نسما العقارية، الحافلات الحديثة، ينبع الدولية للمياه، نسما الساحلية المحدودة، إضافة إلى نسما للطيران المدني وقائمة أخرى وصل عددها 47 شركة جميعهم يتبعون "نسما القابضة" التي تم تصنيفها في 2021 ضمن أقوى 100 شركة عائلية عربية وفقًا لمجلة "فوربس" كما وصل حجم عقودها في 2024 إلى 25 مليار ريال.
هذه المسيرة الاستثنائية في الاقتصاد، كان يوازيها مسيرة أخرى سياسية بدأها صالح التركي مبكرا، برئاسة الغرفة التجارية الصناعية بجدة، ثم رئاسة مجلس الغرف التجارية والصناعية السعودية، إضافة إلى عضوية مجلس مدينة مكة وعضوية مجلس أمناء جامعة "دار الحكمة" بجدة، وعضوية المجلس الاستشاري للمعهد السعودي للعلوم البحثية في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا، ونتيجة هذا المشوار الطويل صدر قرار في 27 يوليو 2018 بتعيينه أمينًا لمحافظة جدة بالمرتبة الممتازة.
لا يحب صالح التركي الحديث كثيرا عن حياته الشخصية ورحلة نجاحه الاقتصادية، فالرجل يكتفي بالظهور الإعلامي الواجب عليه كمسؤول مدني، لكن تلك الصورة تتبدّل تمامًا حين يكون وسط موظفيه، إذ يحكي عن بداياته التي تورّمت فيها قدماه من السير أثناء عمله في متجر أخيه بالخُبر، وينصحهم بالاجتهاد لأنه مؤمن أن "الحظ لا يأتي لغير الكفؤ".
كما يحدثهم عن أهمية العمل الاجتماعي وكيف اقتطع جزءا من أول راتب تقاضاه وتبرع به للفقراء حتى صار هذا نهجه، فبات يرعى كثيرا من الجمعيات الخيرية، مثل: جمعية البر التي يرأسها بجدة، وهو ما حفز معالي الدكتور الراحل غازي القصيبي إلى وصفه قائلا: "إنه شهبندر العمل الاجتماعي". في إشارة إلى الاسم التركي من أصل فارسي ومعناه شيخ التجار أو رئيس تجار الميناء.