هل هناك شيء أكبر من الفشل؟
التباهي بالحجم، أي كان، قد يكون جزء من الفطرة البشرية. واللغة تمنح أطرا خطابية تزيد من التباهي أو الكبرياء التي ترافقنا كبشر.
وكلما زاد حجمنا اقتصاديا وعلميا وعسكريا وفي أغلب المواقع أو المضامير الأخرى التي تمنحنا الجاه والسلطة والسطوة، زدنا تبجحا وأكثرنا من الاتكاء على صيغ لغوية تعكس الخيلاء والزهو والنشوة، التي ترافق ما نراه من منعة ومكانة وعصمة نتصور أنها ستحول لا محالة دون سقوطنا أو فشلنا.
وهل هناك سقف لما نريد الوصول إليه، أو بالأحرى للحجم أو الكبر الذي علينا الوقوف عنده؟ لا أظن ذلك. وإن أردنا الاستدلال على أن ليس هناك حدّ لما يريد البشر الوصول إليه، فللنظر إلى أنفسنا كأفراد، حيث نحث الخطى ونتبارى وقد نستخدم وسائل مختلفة بغض النظر عن أخلاقيتها للوصول إلى مبتغانا وإزاحة الذي يقف في طريقنا إن كان لنا ذلك.
سعينا للحصول على المال مثلا، لا توقفه في الغالب قناعتنا بل الظروف المحيطة بنا التي تقهرنا على قبول الفتات الذي نحصل عليه؛ من منا لو أتيحت له الظروف المواتية يرفض التحول من خانة الفقراء إلى خانة الأغنياء وأي غني يرفض تكديس الثراء لو أتته الفرصة لكسب مزيد من المال.
رغم أننا سواسية كأسنان المشط يوم نولد ونحن متساوون وسينالنا الموت سواسية، إن كنا نعيش في أبراج من العاج أو أكوام من القش، نظل نسعى لتحقيق شيء كبير يمنحنا الحصانة ضد الفشل أو الانكسار.
هذه فرضيات أظن أن البرهنة عليها لا تحتاج إلى مختص في علم المثلثات. وهذه الفرضيات رافقت مسيرة الإنسان منذ الأزمنة الغابرة التي كان يحصل فيها على قوته من جمع الثمار البرية وصيد الحيوانات.
ولكن هذا السعي الحثيث صوب تسلق سلم الأحجام في شتى مناحي الحياة، صار له أبعاد خطيرة في عالم اليوم. في السابق من الزمان، تضخم الشيء أي كان، لم يجر على حساب البشر بصورة عامة أو البسيطة كما نعرفها.
تكديس الثروة في الماضي على سبيل المثال، أي قبل بروز الاستعمار القديم في العصور الحديثة، كان يقع على حساب مجموعة معينة من السكان ضمن بقعة جغرافية محددة.
بيد أن تكديس الثروة منذ بروز الاستعمار القديم أخذ مديات واسعة، لأن التوسع في الحجم وقع على حساب شعوب كثيرة ومساحات من الأرض شاسعة.
فمن خلال حملات عسكرية غربية لاحتلال البلدان والشعوب الأخرى واستغلال مواردها البشرية والطبيعية زاد حجم هذه الدول وبرزت رأسمالية ترى أن كلما زاد الشيء كبرا تعززت مكانته وعسر على المنافسين قهره.
وإن حللنا الخطاب المرافق لهذه الحملات لرأينا توافر أطر خطابية تتكئ على أفعال التفضيل لوصف النمو الحاصل في الصناعة والمساحات من الأرض التي تحتلها الجيوش وأعداد الناس التابعين أي المستعمَرين.
وعلى إثر الاستعمار القديم كبرت الأشياء في عالمنا –أعني الدول التي شنت الحملات الاستعمارية في البداية مثل: البرتغال وإسبانيا ولحقتهما فرنسا وإيطاليا وإنكلترا التي قيل إن الشمس لم تكن تغيب عن مستعراتها.
هذه الدول أو الأشياء لم يسعفها كبر حجمها كي تتجنب الأفول. كانت دولا عظمى في حينها وهي حاليا ليست كذلك وانحسارها وانحدارها من القمة على قدم وساق.
في عالم اليوم الأشياء تكبر، ولكن الكبر في الحجم يقع على منوال يراه البعض مخيفا؛ والمفزع أنه لم يعد مقتصرا على الدول. فأمريكا مثلا شيء كبير جدا، ولكن فيها أفراد وشركات ربما هي الأكبر ما في العالم حتى وإن أخذنا حجم أمريكا كدولة في عين الاعتبار.
وتوافر أفراد وشركات هي في حالة نمو قد يراه الكثير أنه مستديم يحدث أيضا ضمن نطاق دول هي في طريقها إلى العظمة ولكن لم تبلغها بعد –انظر الأثرياء في الهند مثلا وكيف يزداد حجمهم وتنمو وتكبر ثروتهم في محيط يكتنفه الفقر المدقع.
ما أود أن استخلصه هنا هو أن بلوغ الشيء -كبره ونمو حجمه- ليس مؤشرا على استدامته، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الوصل إلى نقطة الفشل إي الأفول والانكسار لا بد وأن يقع موازة للزمن أو الفترة التي استغرقها للوصول إلى الذروة.
بمعنى آخر، أن الفشل ومغادرة المكانة الكبيرة والعظمة التي حصلنا عليها أفرادا كنا أم مؤسسات أم دول لا بد أن يقع، ولكن ننسى أن الفشل قد يلاحقنا بذات السرعة التي أوصلتنا إلى القمة.
وللحديث شجون.