بديوي الوقداني .. شاعر الحجاز والفصحى والنبط
يحظى الشاعر بديوي الوقداني بشهرة كبيرة في عالم الشعر النبطي، كما لأشعاره الفصحى قيمة وأهمية عند المهتمين بالشعر الفصيح. وهذه المقالة تعريف سريع به وبسيرته.
بديوي بن جبران بن جبر بن هنيدي بن جبر بن صالح بن محمد بن مسفر الوقداني العتيبي "1244ــ1296هـ"، هكذا ساق نسبه المؤرخ الحضراوي "ت 1327هـ" في كتابه "نزهة الفكر فيما مضى من الحوادث والعبر". يعتبر بديوي من أشهر شعراء النبط في الحجاز وأجودهم شعرا، وقد نظم في كثير من أبواب الشعر فأبدع كالمديح والحكمة والوصف والرثاء والنصيحة. وفي بعض قصائده نقد لاذع. ولد سنة 1244هـ، واتصل بأشراف مكة والطائف، خصوصا الشريف محمد بن عون، فأكرمه واتخذه جليسا خاصا له، وله معه أخبار ومواقف طريفة ضمنها المترجم في شعره. وكان بديوي من شعراء القلطة والرديات، التي تعتمد على الشعر المرتجل، الذي تجود به قريحة الشاعر أمام خصمه في الحال، وقد أبدع فيه وفاق كبار شعراء عصره حتى أصبحوا يتهيبون مساجلته وملاعبته. تعلم بديوي النحو والصرف على كبر، وأصبح ينظم الشعر العربي الفصيح.
وقد علقت بعض قصائده في أذهان الناس بشكل قوي خصوصا قصيدته في الحكمة التي مطلعها:
أيامنا والليالي كم نعاتبها
شبنا وشابت وعفنا بعض الأحوال
ورأيت في بعض المخطوطات أبياتا سابقة على هذا البيت، إلا أن الأرجح لدي أن هذا البيت هو المطلع. وكذلك نصيحته لولده عبدالعزيز التي مطلعها: "عبدالعزيز الليث يا سبع غابة..". وبديوي ليس شاعرا نبطيا فحسب، بل شاعر فصحى أيضا وهو مبدع في كلتا الحالتين، ذلك أنه درس العربية في مكة المكرمة وتمكن من أدوات اللغة وقواعدها فاستطاع أن يضارع كبار شعراء العربية في الحجاز آنذاك.
وقد وصف شاعرنا بسرعة البديهة والقدرة على ارتجال الشعر، وتذكر الرواية أن خاتم الشريف عبدالله بن محمد بن عون سقط فانصدع فصه وتكسر، فانزعج الشريف لذلك وتطير وتشاءم، وكان بجواره بديوي فقال على البديهة:
لا تخشى يا ابن رسول الله من حجر
رأى المكارم في كفيك فانفجرا
وافاك سعدك إذ وافى السعود وقد
أعطاك ربك سعدا يفلق الحجرا
فسر الشريف وزال عنه الهم والشؤم.
ومن أشعار بديوي في الخيل:
من فوق جماح شديد القوايم
وخيل إذا ما طول الركض زادت
خيل جياد صافنات كرايم
لو هشها الراكب مع الريح طارت
أمهار تسبق طايرات الحمايم
لو كان من ريح الجنوب استعارت
وله هذا البيت:
وانا مربى من زماني ومطواع
ربتني الايام حتى تربيت
وله أيضا:
يا مادح الأنذال مدحك خساره
وراك ما تمدح هل الفضل والجود
اللي يشوفون المدايح تجاره
واعراضها ما حشها علم منقود
والحر دايم يحترك بالإشاره
يفز مثل الزند لي قدح بارود
رجال يسوى له ثمانين حاره
ورجال ما يسوى ولا عظم عجرود
طبع ديوان بديوي عدة مرات، ضمن المجاميع النبطية المشهورة، وما زال يحتاج إلى دراسة أوفى وأعمق. وكتب إبراهيم الخالدي دراسة عن هذا الشاعر تحت عنوان: "ديوان شاعر الحجاز بديوي الوقداني"، جمع فيها شعره الفصيح والنبطي مرتبا حسب حروف الهجاء، مع مقدمة جمع لنا فيها الأخبار المروية عنه وسيرته وحياته، ودراسة مبسطة عن شعر الوقداني وإضاءات عن أسلوبه. صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1426هـ/2005.
وهناك عالم اسمه أحمد بن محمد الحضراوي المكي الهاشمي "1252-1327هـ" له علاقة ومعرفة ببديوي الوقداني، وألف كتابا اسمه "نزهة الفكر فيما مضى من الحوادث والعبر"، وترجم في كتابه هذا لبديوي الوقداني، فكان مما قال عنه "ولد في وادي النمل، - وهو محل على فرسخ من الطائف ــ سنة أربع وأربعين ومائتين وألف، وتربى فيه، ثم سكن الطائف لتحصيل العلم والمعاش، وكانت له قريحة بالعربية، ثم نظم بالقولين. ولقب بشاعر الحجاز ــ يعني الطائف وما علاه ـ، فهو شاعر لطيف، ومغوار غطريف، يخضع لشعره بلابل الأغصان، وتنصت لغزله مسامع كل إنسان. اجتمعت بحضرته سنة سبع وثمانين ومائتين وألف، وقبل هذه السنة لنا معه اجتماع كثير، ومحاضرات لطيفة، فمن ذلك قوله مهنئا عبدالله باشا بإنشاء العين، الماء التي ظهرت وعمرها في مثناة الطريق:
سواجع الشوق بانت في أغانيها
تتلو فنون الهوى والوجد يمليها
فذكرتني عصورا قد مضت وخلت
حيث التصافي ورقي في تصابيها
إلى أن يخلص بقوله:
إذا تذكرت أياما لنا سلفت
حلت ومرت كأن الدهر يطويها
سحت عيوني بفيض الدمع وانسجمت
وأمطرتني وجادت في مآقيها
كجود كف ابن عون كلما وهبت
سيحون لو فاض يوما ما يعنيها
الماجد الشهم عبد الله سيدنا
تاج الملوك إمام الناس فهريها
أضحت نهيبته الأملاك ...
والأرض أبدت كنوزا أودعت فيها
وله قصيدة غرا يقول فيها:
ما يعطي الله إلا مستحقينا
سبحان من ثبتت أحكامه فينا
كل الأمور التي تجري بقدرته
يقضـي بما شا لا يقضـي بما شينا
اختار للملك عبد الله عن ثقة
والله راض وكان الناس راضينا
والملك لا يبتغي يوم به عوض
وإن أرادوا وإن كانوا محبينا
أقام أركانه عدلا وأثبته
ونحن في ظله والأمن راعينا"
رائعة بديوي في الحكمة:
هذه القصيدة الرائعة قالها بديوي في الحكمة وهي من روائع الشعر النبطي:
ايامنا والليالي كم نعاتبها
شبنا وشابت وعفنا بعض الأحوالي
تاعد مواعيد والجاهل يكذبها
واللي عرف حدها من همها سالي
ان قبلت يوم ما تصفي مشاربها
تقفي وتقبل مادامت على حالي
في كل يوم تورينا عجايبها
واليوم الأول تراه احسن من التالي
ايام في غلبها وايام نغلبها
وأيام فيها سوى والدهر ميالي
جربت الأيام مثلي من يجربها
تجريب عاقل وذاق المر والحالي
نضحك مع الناس والدنيا نلاعبها
نمشـي مع الفي طوع حيث ما مالي
كم من علوم وكم اداب نكسبها
والشعر مازون مثقال بمثقالي
اعرف حروف الهجا بالرمز واكتبها
عاقل ومجنون حاو كل الأشكالي
لا شك حظي ردي والروح متعبها
ما فادني حسن تأديبي مع امثالي
ان جيت ابي حاجة عزت مطالبها
العفو ما حد من المخلوق ياويلي
قوم الى جيتهم رفت شواربها
بالضحك وقلوبهم فيها الردا كالي
وقوم الى جيتها صكت حواجبها
وابدت لي البغض في مقفاي واقبالي
ما كني الا مسوي حال مغضبها
والكل في عشرتي ما كر ودجالي
يا حيف تخفي أمور كنت حاسبها
واللي على بالهم كله على بالي
الجار جافي وكم قوم نحاربها
والأهل واصحابنا والدون والعالي
والروح وش عذرها في ترك واجبها
راح الحسب والنسب في جمع الاموالي
نفسي تبي العز والحاجات تغصبها
ترمي بها بين اجاويد وانذالي
المال يحيي رجال لا طباع بها
كالسيل يحيي هشيم الدمدم البالي
عفت المنازل وروحي يوم اجنبها
منها غنيمة وعنها البعد اولى لي
لا خير في ديرة يشقى العزيز بها
يمشـي مع الناس في هم واذلالي
جياع سراحينها شباع ثعالبها
الكلب والهر يقدم كل ريبالي
عز الفتى راس ماله من مكاسبها
يا مرتضـي الهون لا عز ولا مالي
كب المنازل وقل للبين يندبها
تبكي عليها بدمع العين هطالي
لا تعمر الدار والقاله تخربها
بع الردي بالخساره واشتر الغالي
ما ضاقت الأرض واشتبت شبايبها
تقفي وتقبل لها بالعرش مجدالي
دار بدار وجيران نقاربها
وارض بارض واطلال باطلالي
والناس اجانيب لين انك تصاحبها
تكون منهم كما قالو بالامثالي
الأرض لله نمشـي في مناكبها
والله قدر لنا أرزاق واجالي
حث المطايا وشرقها وغربها
واقطع بها كل فج دارس خالي
واطعن نحور الفيافي مع ترايبها
وابعد عن الهم تمسـي خالي البالي
من كل عملية تقطع براكبها
فدافد البيد درهام وزرفالي
تبعدك عن دار قوم ودار تقربها
واختر لنفسك عن المنزال منزالي
لو مت في ديرة قفر جوانبها
فيها لوطي السباع القبس مدهالي
اخير من ديرة يجفاك صاحبها
فيها الجفا والتجافي والتملالي
دس المخاطر ولا تخشى عواقبها
الموت واحد ولا عند الحذر جالي
ان المنية اذا مدت مخالبها
تدركك لو كنت في جو السما العالي.