إيران .. «ولاية الفقيه» أم المشكلات
شُدت أنظار العالم على مدار الأسبوع الأول من العام الجديد إلى تطورات الأحداث في الداخل الإيراني، بعدما عمت احتجاجات بلا قيادة ولا زعامة سياسية أو حزبية المدن والأرياف على حد سواء. مع توالي الأيام، وجدت الحكومة الإيرانية نفسها مجبرة على تغيير لهجة الخطاب، حيث تنكرت للتصريحات الأولى لمسؤوليها من قبيل أن "الاحتجاج السلمي هو حق دستوري"، وأن "الحكومة تتفهم حجم المشكلة الاقتصادية وطبيعة شكوى المواطنين"... إلى غيرها من العبارات الرامية إلى تسويق الجمهورية كبلد ديمقراطي يحترم الحقوق والحريات.
جاءت لغة الوعيد، وما تلاه من ضرب بيد من حديد أدى إلى سقوط عشرات القتلى، واعتقال مئات من المحتجين، بعدما اكتشفت الحكومة أن أيادي داخل أجهزة النظام متورطة فيما يجري. وقد عبر عن ذلك بوضوح، إسحاق جهانجيري نائب الرئيس الإيراني، حين قال "إن على من أخرجوا الناس إلى الشوارع أن يحسبوا تبعات ذلك الخروج، التي قد لا يمكنهم تحملها".
ربما تكون الأحداث الجارية في جانب منها تجليا من تجليات الصراع القديم المتجدد، بين المحافظين والإصلاحيين داخل النظام الإيراني. لكن نسبة تأثيره تبقى ضعيفة، قياسيا إلى باقي العناصر المتداخلة، التي تراكمت على مدى 40 سنة من عمر الجمهورية.
نظام جمهوري فريد
قام الإيرانيون بثورة شعبية نهاية عقد السبعينات للإطاحة بنظام الشاه، رافعين شعار الجمهورية، الذي يمكنهم من التعبير عن إرادة الشعب. ويحقق حلم ثورتهم، ألا وهو القطيعة مع إرث النظام الاستبدادي. حلم لم يتحقق بعدما بدأت الثورة تأكل أبناءها، ممن رفضوا القبول بنظام جمهورية فريد في الأنظمة السياسية المعاصرة، قوامه جمهورية تستند إلى حكم ولاية الفقيه، وليس إلى شرعية الشعب.
ليس غريبا أن يتجدد الصراع باستمرار داخل مكونات النظام الإيراني، ما دام هذا الأخير يحمل تناقضاته في داخله. فعلى غرار باقي البلدان، تجري في إيران بشكل دوري انتخابات رئاسية وبرلمانية. يختار فيها المواطنون رئيسهم أو نوابهم، بين كم هائل من مرشحي الرئاسة أو عضوية البرلمان أو مجلس الشورى.
لكن هذه الديمقراطية تظل مقيدة في الجمهورية الإسلامية بسلطة تعلو عليها؛ لا نظير لها في الممارسة الديمقراطية العالمية، تتمثل في ولاية الفقيه التي تبقى المرجعية العليا لدولة، وليس لهيئة منتخبة رئاسيا ولا برلمانيا، أن تمضي قرارا يخالف قرار ولي الفقيه. وثمة مؤسسات موازية، تعكس إرادة الولي الفقيه، هي من يقرر في مرشحي الرئاسة والبرلمان، ولها صلاحية إسقاط المنتخبين في البرلمان حتى بعد نيلهم ثقة الشعب بدعوى مخالفة مرجعية النظام أو مصلحته.
على هذا الأساس يرى جزء عريض من الإيرانيين أن ما يعانونه مجرد تجليات لمشكلة كبرى اسمها "نظام ولاية الفقيه"، تفرغ الجمهورية من أي محتوى، فيصبح مجرد نظام شكلي يفتقد لأي سلطة حقيقية.
وهم الإمبراطورية العظمى
عاشت إيران من نجاح ثورتها على وهم استعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية، وبغية تحقيق ذلك حرصت على تصدير ثورتها إلى دول عربية معتمدة على الأقليات الشيعية. وكان لذلك بالغ الأثر في علاقتها مع عديد من الدول العربية، بل كان السبب وراء اندلاع حرب دامت ثماني سنوات "الحرب العراقية الإيرانية".
حلم تجدد مرة أخرى، بعدما دخلت إيران في مناكفة مع القوى الكبرى بسبب برنامجها النووي، حيث استشعرت أنها قوة كبرى في الإقليم. وكان لذلك تأثير في ترتيب أولويات صناع القرار في طهران، ممن يعيشون على وهم إمبراطوري متضخم، دفعهم إلى الإنفاق بسخاء في المنطقة العربية، وفي أعماق إفريقيا لشراء الأتباع وضمان الأنصار.
السعي وراء سراب الإمبراطورية، يأتي على حساب الأوضاع داخل إيران، فتحقيق حلم أقلية حاكمة حال دون تغير أوضاع أغلبية محكومة، كانت تعقد الأمل على الاتفاق النووي ليحسن أحوالها. لكن الأمر ازداد تعقيدا، فإيران دولة نفطية، ومنتج رئيسي للغاز الذي لم تتأثر أسعاره كثيرا جراء تقلبات سوق النفط، وبذلك يفترض أن تكون إيران أقل تأثرا من انخفاض أسعار مقارنة بباقي البلدان النفطية.
تنامي رقعة الفساد
لم يتحقق ذلك، لأن الفساد يأتي على ما فضُل من ميزانية تحقيق الوهم الإمبراطوري، فالفساد في نظام الجمهورية الإسلامية لا يعتبر مسألة هامشية، كما هو الحال في معظم البلدان الحديثة، إنما يتلهم نسبة كبيرة من الدخل القومي للبلاد.
ما انعكس على الاقتصاد الإيراني، الذي يعاني في الأصل مشكلات هيكلية، تتعلق بالتشريعات والنظام المصرفي غير الفعال، وغياب البيئة القانونية والسياسية الجاذبة للاستثمارات الخارجية، التي من شأنها أن توجد فرص عمل، وتحد من آفة البطالة المتفاقمة.
بلغت درجة الفساد حدا جعل الأرياف والقرى المحسوبة تاريخيا على المحافظين ومؤسسات النظام تنتفض، وتخرج للاحتجاج على تردي الأوضاع الاقتصادية، وتدهور الأحوال المعيشية لفئات عريضة منهم.
لقد استشعر النظام القائم في إيران خطورة الحراك المتنامي في البلد، لذا سارع إلى إنزال أنصاره إلى الشارع، فأيديولوجيته شاخت على غرار ما حدث في أوروبا الشرقية، وولاءات شبكات الإكليروس القائمة على توزيع المنافع بين الفئات الشعبية بدأت تتفكك، بفعل تراجع نفوذ المؤسسة الدينية التي فقدت جزءا كبيرا من هيبتها وشرعيتها، بسبب انخراطها في غمار السياسة وتعرضها لمغريات السلطة والإملاءات.
إن الأوضاع داخل الجمهورية بلغ حد الإحراج، وحتى إن استطاع سدنة النظام تطويق المظاهرات واحتواء المحتجين بالاستجابة لمطالبهم الاقتصادية، فالأمر لن يكون سوى تأجيل للانفجار. فالنظام الإيراني اليوم في مفترق الطرق، إما أن يواكب تطلعات الشعب بإقرار إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية تمس جوهر النظام، من أجل تحويله إلى نظام ديمقراطي حقيقي، أو أن يسير على خطى أنظمة شمولية فاشلة على غرار ما حصل في ليبيا وسورية...، وبالتالي إدخال البلد في صراع أهلي، قد يتخذ أبعادا هوياتية، تتوفر له كافة المقومات.