العرب .. وتحديات المعرفة والابتكار
هذا العنوان ليس لهذا المقال فقط، بل إنه عنوان كتاب، صدر في 2020، عن مؤسسة الفكر العربي. يسبر الكتاب الحاضر العربي، ويستطلع الواقع العالمي في مسائل المعرفة والابتكار، ويلقي الضوء على التحديات القائمة أمام العرب. ويهتم الكتاب بطرح توجهات مستقبلية يراها مطلوبة، تستند إلى خصائص الوضع الراهن، والإحصائيات المعبرة عنه، والصادرة عن منظمات الأمم المتحدة المختلفة، كاليونسكو UNESCO، ومنظمات شهيرة أخرى، كالمنتدى الاقتصادي الدولي WEF، ومنظمة الشفافية الدولية TI وغيرها.
يسعى هذا المقال إلى إلقاء نظرة عامة على الكتاب تبين معالمه الرئيسة، بدءا من مؤلفيه ومصدر نشره، ثم بيان بعض معطياته، وانتهاء بتقديم تعليق حول موضوعه. مؤلفا الكتاب هما الدكتور معين حمزة، والدكتور عمر البزري، ويتمتعان بخبرة واسعة في مجال سياسات المعرفة والتنمية. أما مصدر النشر فهو مؤسسة الفكر العربي، حيث حظي بتقديم من مديرها الدكتور هنري العويط.
تتخذ مؤسسة الفكر العربي من بيروت مقرا لها، وتم إنشاؤها في 2000 بمبادرة من الأمير خالد الفيصل، وإسهامات من عدد من المهتمين بالفكر العربي، من المملكة وبعض الدول العربية الأخرى. وتقول المؤسسة في تعريفها لذاتها بأنها مستقلة وليس لها ارتباط بالانتماءات السياسية أو الحزبية أو الطائفية، وأن أهدافها تنويرية، تهتم بالتضامن العربي، وتسلك نهج الحرية المسؤولة. وتطرح المؤسسة رؤيتها بالجملة التالية، «إطلاق حوار معمق، راق ومسؤول، متميز عربيا وعالميا، يجمع بين التشخيص والاستشراف، ويمهد لبناء مستقبل واعد وتحقيق النهضة الشاملة». وللمؤسسة نشاطات وفعاليات تسعى إلى تحقيق هذه الرؤية، بينها نشر الفكر العربي، مثل نشر الكتاب المطروح في هذا المقال.
لم يكن موضوع الكتاب غائبا، في السابق، عن بال مؤسسة الفكر العربي، بل كان مطروحا في مختلف نشاطاتها، كما يشير مديرها في تقديمه للكتاب. وهو يذكر في هذا المجال التقرير السنوي العاشر للمؤسسة الصادر في 2018، الذي خصص لموضوع «واقع البحث العلمي العربي وتحدياته وآفاقه»، وحمل عنوانا تحذيريا قاسيا هو «الابتكار أو الاندثار». وانطلق الكتاب من هذا التقرير ليقدم دراسته لتحديات التحول نحو المعرفة والابتكار في الدول العربية.
يتمتع الكتاب بأسلوب علمي يبحث في الحقائق، ويخضعها للتفكير الرصين، ليقدم ملاحظات ومرئيات معززة بأدلة تستند إلى الحقائق وإلى ما يتبعها من تفكير ومحاكمات عقلية. ويتصف الكتاب بأنه يأخذ في الحسبان جميع الدول العربية، على الرغم من إدراكه الاختلافات الكبيرة فيما بينها، حيث يذكر الكتاب ذاته أن الناتج المحلي للفرد في أغنى الدول العربية يبلغ "387" مرة مثيله في أفقرها. وقد لا يتفق القارئ مع كل يطرحه الكتاب من مرئيات، لكنه وإن اختلف معه في أي منها، لا بد أن يثمن له الجهد المبذول، ويقدر له الاجتهاد العلمي في استخلاص المرئيات.
يطرح الكتاب موضوعه عبر أربعة محاور رئيسة، أولها محور يعطي "مقاربة علمية لتحديات التنمية العربية". ترى هذه المقاربة أن بعض الدول العربية تواجه تحديات أمنية، وتعاني فسادا إداريا، ما يؤدي إلى إعاقة التنمية. وترى المقاربة أيضا أن كثيرا من الدول العربية يعاني مشكلات البطالة، وعدم كفاءة المؤسسات الحكومية، وضعف الأنظمة التعليمية، ومحدودية الخدمات الاجتماعية، والرعاية الصحية، إضافة إلى مشكلات في الأمن الغذائي، والأمن المائي، والتلوث، فضلا عن تحديات التطور التقني العالمي، مثل متطلبات التحول الرقمي. وفي مواجهة ذلك يهتم هذا المحور بسياسات ومبادرات التنمية، ويركز على التنمية البشرية وشؤون تطورها، ويطرح موضوع السياسات البحثية، ومسيرة الابتكار والتنمية، ويعطي أمثلة عما يجري في هذا الشأن في بعض الدول العربية، وتبرز رؤية المملكة 2030 كمثال مهم بين هذه الأمثلة.
يتحدث الكتاب في محوره الثاني، الخاص "بالبحوث العربية ومسيرتها نحو الابتكار، عن ضعف إنفاق الدول العربية على البحث العلمي، وضعف الإسهام العربي في التجدد المعرفي العالمي. فعلى الرغم من أن سكان العالم العربي يزيدون على 5 في المائة من سكان العالم، إلا أن إسهامهم في النشر العلمي لا يزيد على 1.37 في المائة، وإسهامهم في براءات الاختراع لا يتجاوز 0.9 في المائة. ويبرز الكتاب هنا الحاجة إلى اهتمام أكبر بالبحث العلمي والابتكار، وباكتساب التقنية وتوطين إنتاجها، وجعلها مصدرا لتفعيل الاقتصاد والإسهام في التنمية، كما هو الحال في دول أخرى من العالم.
ويهتم الكتاب في محوره الثالث، الخاص "بالتحولات المعرفية في الدول العربية"، بتحديات الحقول المعرفية الجديدة. ويركز في هذا المجال على تحديات كل من: التقنية الرقمية، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، والتقنية الحيوية ومعطياتها المهمة، إضافة إلى تقنية المواد وخصائصها الواعدة. ويركز الكتاب في هذا المجال على الدور المستقبلي للتعليم العالي في استيعاب هذه الحقول المعرفية المهمة والإسهام فيها.
ويناقش الكتاب في محوره الرابع، الخاص "بتمكين المجتمع من اكتساب المعارف العلمية واستثمارها"، ست قضايا رئيسة تشمل استخدام اللغة العربية، والمساواة بين الرجل والمرأة، والثقافة والإعلام العلمي، والأخلاقيات والنزاهة العلمية، وأنظمة الملكية الفكرية، إضافة إلى التعاون العلمي واستثمار الكفاءات العربية المهاجرة.
لا شك أن المستقبل العربي مرتبط بقضايا المعرفة والابتكار والتنمية وأبعادها الواسعة. وكانت لي تجربة مماثلة في كتاب عنوانه «نحو مجتمع معرفي عربي»، أعددته مع الزميل العزيز الدكتور سامي الوكيل، ونشرته جامعة الملك سعود في 2019، وكتبت عنه مقالا نشر على هذه الصفحة في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) 2020.
ولعلنا نتطلع، في المستقبل، إلى عمل يضع منهجية موحدة لدراسة الوضع الراهن واستشراف آفاق المستقبل بشأن المعرفة والابتكار والتنمية، على أن يتم تطبيق هذه المنهجية، في دراسة خاصة، على كل دولة عربية على حدة، وعدم دمجها في دراسة واحدة. والأمل بعد ذلك أن تجري دراسات مقارنة بين الدول، تهتم بتعزيز التعاون فيما بينها. وتكون النتيجة سلسلة من الكتب التفصيلية المفيدة التي تتكامل فيها النتائج، عبر المنهجية الموحدة، وتقود إلى تفعيل مسيرة مشتركة نحو المستقبل، تتمكن الصقور العربية، من خلالها، فعل ما تفعله النمور الآسيوية.