معضلة الديون .. موجات ارتدادية لا تنتهي
بعد أن استضافت باريس، أواخر يونيو الماضي، قمة "من أجل ميثاق مالي عالمي جديد"، بحثت عن أفضل السبل لمواجهة أزمة الديون، حضر الموضوع مجددا، نهاية الأسبوع الماضي، في أجندة مجموعة قمة العشرين بالهند نهاية الأسبوع، فقد حظيت كيفية مساعدة الدول الواقعة في شرك أزمات الديون باهتمام ممثلي الاقتصادات الرائدة. خاصة مع تحول مشكلة الديون العالمية، في الأعوام الأخيرة، إلى متلازمة تهدد بقوة الاقتصاد العالمي.
عادت مسألة الديون إلى الواجهة في أعقاب جائحة كورونا، وزادت تداعيات الأزمة الأوكرانية من وقعها، فالاقتصاد العالمي غارق في بحر من الديون، بعد أن تجاوز الرقم 300 تريليون دولار، ما جعل ديفيد مالباس رئيس البنك الدولي، يحذر من أن يواجه العالم "موجة خامسة من أزمة الديون"، مع مخاوف من كون هذه الأزمة "الأوسع قاعدة"، خلال نصف قرن، مقارنة بأزمات الديون السابقة.
جعل ذلك من الدين أولوية ملحة في جدول أعمال رجال السياسة، وتحول إلى مشكلة قصوى بحاجة إلى تنظيم.
وازداد حديث مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي راهنية حين تكلم عن وجود "أكثر من 50 دولة على راداره، التي يمكن أن تتخلف عن سداد الديون بسرعة كبيرة"، ما يقلل من فرص وفاء الأمم المتحدة بالأهداف التنموية لعام 2030.
الديون .. موجات ارتدادية لا تنتهيتعد معضلة الديون سمة العصر الحديث، فخلال 50 عاما الماضية، اهتز الاقتصاد العالمي على وقع أربع موجات قوية، اقترنت بأزمات مالية شهدتها الأسواق النامية والفقيرة.
كانت البداية مع دول أمريكا اللاتينية التي أدمنت الاقتراض، بسعر فائدة منخفضة، من البنوك التجارية الأمريكية، أملا في دعم نموها الاقتصادي الذي جعلت النسب التي يحققها الديون في نطاق آمن. لكن الاقتراض دون سداد، جعل إجمالي الديون يقفز من 29 مليار دولار عام 1970 إلى 327 مليار دولار عام 1982. بالتزامن عمدت الاقتصادات الكبرى إلى رفع معدلات الفائدة لمواجهة التضخم.
هكذا وجدت دول نفسها غير قادرة على السداد، ما اضطرها لإضعاف عملتها المحلية أمام الدولار حتى يكون بمقدورها الاستمرار في التصدير، فبين عامي 1981 و1983 خفضت كل من الأرجنتين والمكسيك والبرازيل عملاتها المحلية، بنسب 40 و33 و20 في المائة على التوالي.
تراخت تداعيات الأزمة على نطاق واسع، ما وضع 29 دولة من بينها 16 في أمريكا اللاتينية فيما يشبه الإفلاس، ما فرض عليها إعادة جدولة ديونها.
بخلاف الموجة الأولى كان للقطاع الخاص دور كبير في الموجة الثانية التي شهدها عقد التسعينيات، بعد قرار عدد من الدول الغربية تحويل البنوك إلى مؤسسات ذات طابع عالمي، ما أسهم في حركة واسعة لرؤوس الأموال تجاه بلدان جنوب شرق آسيا. توجه سرعان ما أدى إلى انهيار عملة تايلاند نتيجة التعويم الحكومي، بحثا عن التوازن الداخلي، بعد اختفاء العملات الأجنبية، بسبب تحمل عبء الديون الخارجية.
امتدت الأزمة سريعا من تايلاند إلى دول المنطقة برمتها، فتهاوت العملات المحلية في كل من: إندونيسيا وكوريا الجنوبية وماليزيا والفلبين ولاوس وهونج كونج وتايوان وسنغافورة... ما أوجد هلعا كبيرا في الأسواق المالية الآسيوية، كانت توقعات الخبراء أن تكون تداعياته أقوى، لولا التدخل القوي للصين لدعم الدول المتعثرة حينها.
اهتز العالم مجددا عام 2008 بسبب أزمة الرهون العقارية التي تفجرت نتيجة قرار الولايات المتحدة إزالة الفواصل بين البنوك التجارية والاستثمارية، ما شجع البنوك على منح قروض، تعدت 700 مليار دولار، على نطاق واسع بلا ضمانات كافية، بعد الازدهار الكبير في سوق العقارات الأمريكية ما بين 2001 و2006، بحثا عن وافر الربح لمؤسسات الاقتراض.
تزايد حالات التوقف عن الدفع، بعد بلوغ حجم التعثر زهاء 100 مليار دولار، رفع من المواجهات بين المقترضين والبنوك، ووسع من نطاق استيلاء المقرضين على العقارات. فأعداد المنازل المعروضة للبيع ارتفعت بنسبة 75 في المائة، حتى بلغت 2.2 مليون، أي 1 في المائة من إجمالي المساكن في الولايات المتحدة.
وقبل أعوام، تحديدا عام 2015 عمت موجة ديون "صامتة" دولا إفريقية عديدة، فالتقارير تتحدث عن مواجهة 20 دولة إفريقية لمديونية مفرطة أو في طريقها إلى ذلك. ووصل الأمر بدول مثل غانا وزامبيا وإثيوبيا والسودان وإريتريا والرأس الأخضر إلى الإعلان بأنها تقف على حافة الإفلاس أو ربما الإفلاس فعليا، لبلوغها نسبة 20 في المائة من الميزانية لسداد الفائدة على الديون.
الديون .. سقم يهدد الكبار والصغارأفادت تقارير معهد التمويل الدولي بأن قيمة الديون الخاصة بالربع الأول من عام 2023 بلغت نحو305 تريليونات دولار، تمثل ديون الحكومات منها نحو 1 /3، أي زهاء 100 تريليون دولار فقط، فيما توزع الباقي ما بين القروض الشخصية وتلك الخاصة بالشركات والهيئات، ما يمثل نسبة 353 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي.
يعد اشتراك الدول المتقدمة والناشئة في مأزق الاقتراض ميزة خاصة بهذه الموجة، خلافا لأزمات الديون السابقة، فبحسب خبير في البنك الدولي، تعد "نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي للاقتصادات المتقدمة أعلى من أي وقت مضى... والدول النامية تواجه مشكلة مماثلة، وهذا يعني أن الاقتصاد يجب أن يعمل بجهد أكبر لسداد الأموال التي تم اقتراضها بالفعل". إذا كانت ديون الأسواق الناشئة قد كسرت، ولأول مرة على الإطلاق، حاجز 100 تريليون دولار، ما يعادل 250 في المائة من قيمة ناتجها المحلي الإجمالي، بزيادة قدرها 25 تريليون دولار عن مستوى عام 2019، فإن الأسواق المتقدمة ليست بأفضل حال، فالصين على الطريق نحو أزمة مديونية، وفق بيانات صندوق النقد الدولي، فقد بلغت ديون الحكومة نسبة 82،4 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي، ويتوقع أن تصل النسبة إلى 92 في المائة عام 2025، وترتفع إلى 104 في المائة عام 2028.
تجاوز سقف ديون الصين عتبة 100 في المائة بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، يعني تكرار سيناريو الحالة الأمريكية. علما بأن واشنطن في وضع فريد مقارنة بـبكين، لكونها صاحبة العملة الاحتياطية العالمية، فهي تمتلك وتطبع الدولار، ما يسمح لها بتحمل الديون بتكلفة أرخص من الدول الأخرى.
لكن ذلك لا يجعلها في مأمن من المعضلة، فقد اضطر الرئيس جو بايدن لخوض الجولة 78 من معركة منذ 1960، مع الحزب الجمهوري قصد رفع سقف الدين، فقد بات بمقدور الحكومة أن تستدين ما قدره 31.7 تريليون دولار، وهذا يمثل بحسب معطيات وزارة الخزينة، نسبة 125 في المائة من إجمالي الناتج المحلي الأمريكي، وستة أضعاف الإيرادات الفيدرالية السنوية، ونحو 95 ألف دولار كنصيب لكل مواطن أمريكي من الدين العام.
العالم اليوم مديون بثلاثة أضعاف ونصف دخله القومي، فحتى أقوى اقتصاد في العالم وصاحب أقوى عملة والأكثر ثراء، بلغ مستوى العجز عن سداد ديونه، ما يجري الحديث عنه بشأن الدول الفقيرة أو النامية. إضافة أوضاع المديونية في الصين إلى هذا الوضع تجعلنا بلسان سيمون فرينش، كبير الاقتصاديين في بنك الاستثمار "بانمور جوردون" نتخيل أزمة اقتصادية عالمية تبدو معها أزمة 2008 كـ"حفلة شاي".