أسواق النفط .. بين مخاوف الاقتصاد والتوترات الجيوسياسية
شهد العامان الماضيان سلسلة من الأحداث الجيوسياسية، أبرزها الأزمة الأوكرانية والصراع في الشرق الأوسط. وربما يشهد هذا العام قدرا أكبر من التوترات، مع احتمال اتساع الصراع في الشرق الأوسط، فضلا عن تصاعد التوترات في بحر الصين، وبين الكوريتين. كل هذه التوترات قد تنطوي على إشراك قوى عظمى بطريقة أو أخرى، وتحمل معها التهديد بحدوث ارتفاع مفاجئ في أسعار جميع السلع. وقد تنشأ أيضا أحداث أخرى، أقل قابلية للتنبؤ بها، من شأنها أن تفعل الشيء نفسه.
على هذا النحو، بدأ المتداولون في السوق العام بحذر، حيث عوضت بطء نمو الاقتصاد العالمي ومخاوف الطلب الأخطار الجيوسياسية المتزايدة المرتبطة بالتطورات في البحر الأحمر وما حوله. حيث أجبرت الهجمات على السفن التجارية شركات الشحن على إعادة توجيه البضائع من الشرق الأوسط وآسيا، وبالتالي رفع التكاليف وزمن الرحلة. ومن الجدير بالذكر أيضا أن الأسابيع القليلة الأولى من التداول من المرجح - تماما مثل معظم الأعوام السابقة - أن تؤدي إلى بعض التقلبات، حيث سيبحث المضاربون عن إشارات التداول، ما يؤدي إلى إيجاد ظروف تداول متقلبة.
وكان الصراع في الشرق الأوسط، الذي بدأ في أوائل أكتوبر، سببا في رفع أسعار النفط، ولكن لفترة وجيزة فقط. وفي أقل من شهر، تخلت الأسعار عن كل مكاسبها من الأخطار الجيوسياسية الجديدة في أهم منطقة لإنتاج النفط وعبور شحنات النفط في العالم. وصل خام برنت إلى أعلى سعر له في 2023 في نهاية سبتمبر - عند 98 دولارا للبرميل، قبل أسبوع من بدء الصراع في الشرق الأوسط. ولم تصل أسعار خام برنت إلى تلك المستويات مرة أخرى العام الماضي، رغم المخاوف المتزايدة بشأن الشحن في البحر الأحمر ومضيق باب المندب بسبب الهجمات المكثفة.
ولم ترتفع أسعار النفط حتى بعد التخفيضات التي أقرتها "أوبك+". باستثناء الارتفاع القصير في نهاية سبتمبر الذي تزامن مع بيانات حول انخفاض المخزونات الأمريكية إلى أدنى مستوى لها منذ ديسمبر 2022، حيث كانت السوق تتوقع إلى حد كبير استمرار التخفيضات. كانت المخاوف بشأن النمو الاقتصادي ونمو الطلب على النفط والإمدادات الأعلى من المتوقع من المنتجين من خارج "أوبك+" هما المحركان الرئيسان لأسعار النفط في العام الماضي.
لذلك، في العام الماضي، بلغ متوسط أسعار خام برنت 83 دولارا للبرميل، مقارنة بمتوسط 101 دولار للبرميل في 2022 - بفارق 19 دولارا للبرميل.
ومع التخفيضات المعلنة الأخيرة للربع الأول من 2024، يحاول تحالف "أوبك+" سحب المعروض الفائض وتحقيق الاستقرار في السوق. وتتطلع المجموعة إلى الحفاظ على حد أدنى لأسعار النفط، لكنها قد لا تدعم الأسعار أكثر من اللازم. ويطبق هذا خاصة إذا لم تقم المجموعة بتمديد التخفيضات إلى ما بعد مارس 2024. حيث، ستتعرض أسعار النفط لضغوط هبوطية لزيادة الإنتاج من الدول غير الأعضاء في "أوبك+"، بما في ذلك البرازيل، النرويج، كندا وغيانا، وقبل كل شيء، الولايات المتحدة.
في ضوء هذه التطورات، أصدرت دول "أوبك+" في بداية العام بيانا مشتركا أكدت فيه وحدتها واستعدادها لاتخاذ إجراءات إضافية إذا لزم الأمر. علاوة على ذلك، أكدت الدول الأعضاء في "أوبك" من جديد التزامها الثابت بالأهداف المشتركة المتمثلة في الوحدة والتماسك داخل المنظمة، ومع الدول المنتجة من خارج "أوبك" المشاركة في إعلان التعاون.
منذ بداية العام الجديد، يتم تداول أسعار النفط في نطاق ضيق حيث تواجه التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط الآن المخاوف الاقتصادية المزمنة. ومع ذلك، سجلت الأسعار انخفاضا في يوم التداول الأول من العام الجديد، حيث طغت تحديدا المخاوف بشأن الاقتصاد الأمريكي مؤقتا على المخاوف من تصعيد آخر في البحر الأحمر.
وتصاعدت التوترات بعد سلسلة من التطورات خلال الأسبوع الماضي، بما في ذلك خفض الإنتاج في حقل الشرارة النفطي الليبي، الذي ينتج نحو 300 ألف برميل يوميا، واستمرار الهجمات على سفن الشحن في البحر الأحمر.
وعلى هذه الخلفية، ارتفعت أسعار النفط بمقدار أربعة إلى خمسة دولارات في بداية العام، وأغلقت الأسبوع الأول من العام الجديد بمكاسب طفيفة. لكن الصورة الأساسية الإجمالية لم تتغير. ومن الممكن أن يتصاعد الوضع في ظل التصريحات القوية للتحالف المكون من 11 دولة بقيادة الولايات المتحدة، الذي تعهد بضمان سلامة الملاحة في البحر الأحمر.
من ناحية أخرى، يستمر المتداولون مثل صناديق التحوط - تماما كما فعلوا في العام الماضي - في لعب دور مهم عندما يتعلق الأمر بتحديد الارتفاعات والانخفاضات في السوق. يميل هذا الزخم الذي يتبع استراتيجيات التداول في كثير من الأحيان إلى توقع وتسريع وتضخيم تغيرات الأسعار التي بدأتها الأساسيات. ومع ذلك، نظرا إلى كونهم من أتباع الزخم، فإن هذه الاستراتيجية عادة ترى هذه المجموعة من المتداولين يشترون عند قوة السوق ويبيعون عند ضعفه، ما يعني أنهم في الأغلب ما يحتفظون بأكبر صفقة شراء بالقرب من ذروة الدورة أو أكبر صفقة بيع مع بدأ التراجع من الذروة.
عموما من غير المتوقع هذا العام أن ترتفع أسعار النفط كثيرا عن المستويات الحالية، ما لم يحدث تصعيد كبير للتوترات في البحر الأحمر وحول نقطة عبور النفط الأخرى في الشرق الأوسط، مضيق هرمز.
سيؤدي ضعف نمو الاقتصاد العالمي المتوقع إلى تباطؤ نمو الطلب على النفط في 2024، ما يبقي متوسط سعر النفط القياسي الأمريكي أقل من 80 دولارا للبرميل، وفقا لاستطلاع "رويترز" الشهري الذي عدل فيه المحللون توقعاتهم لعام 2024 بالخفض مقارنة بتوقعات الشهر السابق. وأظهر استطلاع "رويترز" الذي شمل 34 محللا واقتصاديا الشهر الماضي أن من المتوقع أن يبلغ متوسط أسعار خام برنت 82.56 دولار للبرميل هذا العام، بانخفاض عن متوسط التوقعات عند 84.43 دولار في استطلاع نوفمبر. وفي المسح الذي أجري في ديسمبر، قال واحد فقط من بين 34 مساهما إنهم يتوقعون أن يتجاوز متوسط أسعار برنت 90 دولارا للبرميل في هذا العام.
في هذه الأثناء. ستواصل مجموعة "أوبك+" دعم الأسعار واستقرار السوق من خلال تمديد تخفيضات الإنتاج الحالية. كما أن توقيت التخفيض الأول لأسعار الفائدة الأمريكية والوتيرة اللاحقة للتخفيضات سيزيد من التقلبات في السوق من المتداولين الذين يركزون على الاقتصاد الكلي.