من كاميرون إلى ماكرون
"أتعهد بحكومة محصنة من اليمين المتطرف، وأقصى اليسار"
غابرييل آتال، رئيس وزراء فرنسا
في غضون ثماني سنوات، تم اتخاذ قرارين من على ضفتي القنال الإنجليزي "المانش"، هزا الاتحاد الأوروبي، وطرحا مخاوف جمة حول مستقبل هذه الكتلة، التي تشهد حاليا موجة عداء داخلية، قد لا تكون عالية، لكنها قابلة لأن تكون كذلك في المستقبل، إذا استمرت وتيرة تحول المزاج السياسي في نطاق هذا الاتحاد.
في عام 2016 قرر رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ديفيد كاميرون أن يحسم موضوع مستقبل عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي، في استفتاء شعبي عام، عبر مغامرة حقيقية، ولأنها كذلك، تعرض للخسارة، ونجح أولئك الذين لا يرون أنفسهم ضمن اتحاد أوروبي يسيطر على أغلب تشريعاتهم. وهذا الشهر، أقدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على مقامرة، بدعوته لانتخابات تشريعية، لم تحسم ارتباك المشهد السياسي بفرنسا، بل زادت اهتزازه.
كاميرون "المغامر" كان يريد أن يسيطر تماما على حزب المحافظين الذي كان يتزعمه، في ظل تنامي التوجه اليميني ضمن دائرة هذا الحزب الكاره تقليديا للوحدة الأوروبية بكل أشكالها. كانت النتيجة أنه استقال وأبعد عن الساحة. ماكرون "المقامر"، الذي أصابته جراح نتائج الانتخابات الأوروبية التي اتجهت نحو اليمين، أراد أن يسيطر على الوضع العام في بلاده، بدعوته لانتخابات تشريعية مبكرة، نشر "الصدمة" في أوساط القاعدة العريضة من المراقبين.
لم يفز بالطبع كما كان متوقعا، لكنه بات أمام تشكيل برلماني ملتبس. أقصى اليسار الذي حقق الأغلبية غير المطلقة، يريد تشكيل حكومة تناكف الرئيس، واليمين المتطرف الذي جاء في المركز الثالث، نتيجة تحالفات اللحظة الأخيرة بين التيارات السياسية، يتعهد بالصمود حتى الوصول إلى الحكم أو قيادة المؤسسة التشريعية في البلاد لاحقا.
لا يمكن فصل المغامرة البريطانية، التي أفضت إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي "بريكست" والمقامرة الفرنسية، التي زادت من التشويش للمشهد العام، عن مسار الاتحاد والتوجهات الشعبية حياله في كل البلدان المنضوية تحت لوائه. مع فارق واحد، هو أن مقامرة ماكرون الانتخابية أجلت الخطر الكبير على أوروبا الآتي من جهة اليمين، لكنها لم تنهه، ولعل ما كتبه رئيس وزراء بولندا دونالد توسك في أعقاب نتائج الانتخابات الفرنسية يلخص الحالة. ماذا قال؟ "في باريس حماسة، وفي موسكو خيبة أمل، وفي كييف ارتياح، وهناك شيء يدعو إلى السعادة في وارسو". وهذا صحيح، لكن في الوقت الراهن فقط، إلا إذا تمكنت الحكومات الأوروبية الحريصة على مستقبل الاتحاد، من تغيير لا بد أن يكون سريعا، لوقف المد "الانفصالي" في هذا البلد أو ذاك.
المغامرات والمقامرات السياسية، ليست فاشلة دائما، لكنها في الواقع لا تندرج ضمن مفهوم العمل السياسي الذي لا بد أن يكون واضحا، من أجل تحقيق أهداف بعينها، أو تقديم تبريرات للعجز في تحقيق الإنجازات، شرط أن تكون قابلة للتصديق أطول فترة ممكنة. بريطانيا صارت خارج الاتحاد، ومع التحول نحو اليسار المعتدل فيها أخيرا، بوصول حزب العمال إلى السلطة، ستكون أقرب إليه في السنوات الخمس المقبلة، دون أن ننسى، بقاء الحراك اليميني المتشدد في المشهد العام بالمملكة المتحدة، بصرف النظر عن قوته.
لنترك ماكرون حاليا بين وسادتي اليمين المتطرف وأقصى اليسار، لكنه في النهاية تجنب بالفعل من خلال مقامرته السيناريو الأسوأ، وهو وصول اليمين إلى الحكم في الدولة التي يتم التعاطي معها دائما على أنها "أم الاتحاد الأوروبي". الدولة التي تتمتع بحق النقض "الفتيو" لاستخدامه في تأمين مصالحها ومصالح حلفائها في الكتلة الأوروبية، التي لم تواجه سابقا الشكوك حول مستقبلها بقدر ما تواجهه حاليا.