أمواج متلاطمة تتقاذف النمو العالمي
"العالم يواجه خطر الوقوع في مسار نمو منخفض" كريستالينا غورغيفا، مديرة صندوق النقد الدولي
بدأت المخاوف التي تلف النمو العالمي في الفترة المقبلة، تأخذ أشكالاً متعددة. بعضها مبالغ فيه، والبعض الآخر يستند إلى أرضية واقعية. ويمكن القول، إن المسألة برمتها صارت مثل كرة الطاولة، بين المتفائلين والمتشائمين، وأحياناً يدخل إلى الساحة أولئك الذين يكتفون بالانتظار حتى تتضح الصورة، ولسان حالهم، نحن نمر بمرحلة عدم اليقين التام. الاقتصاد العالمي يحتاج إلى النمو الأكثر استدامة، لأسباب عديدة، في مقدمتها ضمان اجتياز فترة التعافي الجارية حالياً، بعد سلسلة من النكسات التي أصيب بها، من عدة نواحي، لعل أقربها إلينا تفاقم الصراعات الجيوسياسية، والموجة التضخمية الطويلة الهائلة، والتشديد النقدي الذي يمكن وصفه بالتاريخي من حيث الحجم والمدة الزمنية التي استغرقها، وبالطبع المعارك التجارية، التي يرف المتفائلون وصفها بالحروب.
النمو العالمي سيتحقق بدون شك بنهاية العام الجاري، والعام المقبل، لكن السؤال الأهم يتعلق، بقدرة الاقتصاد الدولي على حماية المستوى المأمول لهذا النمو في الأشهر القليلة المقبلة. فأخطار الوقوع في مسار نمو منخفض، لا يستبعده صندوق النقد الدولي، والنقطة المهمة الصاحبة لذلك، أن ديون الحكومات والأفراد ستبقى مرتفعة، وربما زادت في الفترة المقبلة، في ظل الحراك الواسع للبنوك المركزية الرئيسة لخفض الفائدة. وكما هو معروف، فإن تكاليف الاقتراض المنخفضة، تشجع على الاستدانة الواسعة. وإذا ما أضفنا مستوى نمو منخفض إلى المشهد العام، فإن الحكومات ستعاني موارد أقل بالطبع، في وقت لا تزال تدفع فيه تكاليف الأعباء الاقتصادية التي تركتها جائحة "كورونا" في الساحة مطلع العقد الحالي.
وسط ذلك، ستكون هناك ثغرات عديدة في حراك الدول الهادف إلى توفير الفرص، ومواجهة التحديات المتنوعة، بما في ذلك مسألة التغيير المناخي. وهذه النقطة تعد محورية منذ أكثر من عقدين على الأقل، وتكاليف مواجهتها ليست بسيطة، ولها متطلباتها "الإنفاقية" إن جاز التعبير. يضاف إلى ذلك عدم وضوح الرؤية حيال من سيحكم الولايات المتحدة في مطلع العام المقبل.
فهناك مخاوف (مثلاً)، من استفحال السياسة الحمائية العالمية بوصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، فضلاً عن تفاقم الديون الأمريكية على وجه الخصوص، بعد أن بلغت 35 تريليون دولار، خصوصاً أن الإدارة الجمهورية، ستقدم على خفض الضرائب على الشركات، منذ اليوم الأول لوجودها في الحكم. صحيح أن هذا البلد قادر على السداد، لكن الصحيح أيضاً، أن الديون الهائلة تترك بصماتها على الساحة المحلية والعالمية في آن معاً.
إذا كان الاقتصاد العالمي تمكن بالفعل من الصمود في الفترة السابقة وفي الوقت الراهن، أمام نتائج الحروب والمواجهات المختلفة هنا وهناك، لكنه ربما لن يكون كذلك، إذا ما استفحلت الأمور، وتفاقمت الحمائية المرعبة لكل أطرافها، في المرحلة المقبلة. فالحمائية لم تعد منحصرة بين بين بلدان لا تحالفات بينها، بل بين دول حليفة لعقود وفي كل الأحوال، سيكون النمو العالمي عرضة لكل هذه العوامل وغيرها، ولا سيما تلك التي باتت جزءاً من المنغصات في المشهد الاقتصادي العام.
نجح العالم بالفعل بالخروج من موجة تضخمية هائلة، لكن بتكاليف عالية للغاية. وكل ما يحتاجه الآن، نمواً ليس بالضرورة أن يكون كبيراً، بل أكثر استدامة، لأن المرحلة الراهنة تعج بالمؤثرات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وحتى الخلافات الإيدلوجية، التي تؤجج صراعات جيوسياسية، لا يمكن للاقتصاد العالمي إلا أن ينال نصيبه المباشر منها. إنها مرحلة حاسة، تحتاج إلى نمو، وضبط قوي للديون، ومرونة سياسية مطلوبة الآن وبشدة.