استمرار الميزانيات التريليونية
الميزانية العامة السعودية للعام الجديد 2025، هي استمرار للميزانيات التريليونية المتتالية منذ عام 2018. المصروفات 1285 مليار ريال. وهي ما برحت ذات سمة توسعية من حيث إنها تحافظ على الإنفاق الرأسمالي ضمن مستواه في 2024، وتسجيل عجز 115 مليار ريالن وهو أعلى مما كان مقدراً (79 مليار ريال) لكن نسبة العجز بقيت دون 3% من الناتج المحلي الإجمالي. وعند التمعن في العجز، ورغم أنه ضمن مستويات الجدارة المنصوص عليها في اتفاقية "ماسترخيث" المعتبرة في منظمة التنمية الاقتصادية والتنمية، فيمكن اعتباره عجزا اختياريا، حيث إن وجوده يقوم على المفاضلة بين أمرين: إما الإنفاق وفق ما هو متاح من إيرادات بحيث يكون هناك توازن تام بين الإيرادات والمصروفات، وعند اتباع هذا الخيار فلن تسجل الميزانية عجزاً، أو الإنفاق وفق الاحتياجات التمويلية لبرامج تنموية واستثمارية حكومية تدعم تحقيق رؤية 2030 ومستهدفاتها.
والخيار الثاني، هو الذي تتبعه الحكومة لتمكين تحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030، وما يتطلبه الإنفاق على البرامج والالتزامات الجارية الأخرى، وليس وفقاً لما هو متاح من إيرادات واردة للخزانة العامة.
وتملك السعودية الجدارة الائتمانية للتحرك ضمن فسحة مالية (fiscal space) مريحة، تمكنها من الاقتراض من السوق الدولية بأسعار من بين الأكثر تنافسيةً، وعادة تشهد الإصدارات تغطيات بأضعاف السقف المطلوب استدانته، وقد وظفت الحكومة هذه الفسحة بالمعايرة بين الاقتراض الداخلي والخارجي حسب الاحتياج، وحالياً فثلثيّ الدين العام داخلي وثلثه خارجي، وقد بلغ حتى نهاية الرابع الثالث نحو 1.2 مليار ريال وهو ما برح دون السقف المحدد بـ30% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي المنظور متوسط المدى.
فسيبقى العجز ملازماً الميزانية حتى 2027 وفقاً لتقديرات وزارة المالية، ولن تتجاوز نسبته 3% في أيٍ من السنوات وفقاً لتلك التقديرات، وبالمقارنة فإن متوسط نسبة العجز لدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تجاوز 7.5% لعام 2021.
وفيما يتصل بالدين العام فوفق التقديرات الرسمية، فمن المتوقع أن يكسر قوام الدين العام حاجز 30% في 2026 ليصل إلى 32.3% وإلى 33.3% في 2027، ورغم أن النهج المتحفظ الذي تنتهجه السعودية لتحقيق الاستدامة المالية من خلال تنمية إيرادات مستدامة للخزانة ناتجة عن تصاعد النشاط الاقتصادي وزيادة عوائد الاستثمارات، فمن المناسب الإشارة إلى أن متوسط نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي لدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يتجاوز 120% من الناتج المحلي الإجمالي.
ومن جانب آخر، فمن أهم سمات بناء سعة الاقتصاد هو الحفاظ على سمت الإنفاق الرأسمالي، إذا من الملاحظ بلوغ الإنفاق الرأسمالي للحكومة 186 في 2023 وهو في حدود ما كان مخططاً (189 مليار ريال) وارتفع في بنحو 5.9% عما كان عليه في 2023. وقد رصدت ميزانية 2025 مبلغ 186 مليار ريال للإنفاق الرأسمالي. وتمارس الحكومة دوراً محورياً في هذا الجانب وذلك من خلال 3 أذرعة، أولا: الإنفاق الحكومي الرأسمالي. ثانيا: استثمارات صندوق الاستثمارات العامة. ثالثا: الضخ الاستثماري الداعم من صندوق التنمية الوطني والصناديق المنضوية تحت مظلته بما في ذلك صندوق البنية التحتية، وهو ضخ يقوم على إستراتيجية مقرة وذات مستهدفات تسعى لتحقيق هدف رئيسي محدد وهو تنويع الاقتصاد عبر تعظيم مساهمة القطاع الخاص، فبالإضافة لنشاط صندوق الاستثمارات العامة الذي يقوم على محركات على الأرض قوامها نحو 100 شركة تسعى لتحقيق التنويع الاقتصادي، فإن صندوق التنمية الوطني يمتلك منظومة تزداد تكاملاً لدفع التنويع الاقتصادي بقيادة القطاع الخاص على تفاوت مشاربه وأحجامه من بنك التنمية الاجتماعية إلى صندوق زراعي وصندوق صناعي وصندوق عقاري وصندوق تنمية الموارد البشرية وصندوق التنمية الثقافي وصندوق الفعاليات الاستثماري وصندوق التنمية السياحي وبنك المنشآت الصغيرة والمتوسطة وصندوق البنية التحتية وبنك الاستيراد والتصدير.
ومن الملحوظ نمو تكوين رأس المال الثابت (بالأسعار الثابتة لعام 2018)، حيث ارتفع من 829 مليار في 2022 إلى 873 مليار في 2023، وتقديرنا أن يرتفع على أساس سنوي إلى 942 مليار في 2024، أي ما يمثل 27.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وبالمقارنة فإن متوسط النسبة لدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لعام 2022 بلغ 22%. وتجدر الإشارة إلى أن النسبة في الاقتصاد السعودي بلغت 23.7% في 2022 وارتفعت إلى 25.2% في 2023.
وفيما يتصل بالأداء الاقتصادي، فقد عايشت خلاله السوق النفطية تحدياً محورياً اضطرت السعودية لمجابهته. ففي 2022 كانت السعودية من ضمن الأعلى نموا بنسبة نمو 8.7%، فيما شهد 2024، وقبله 2023 تحديات اقتصادية أبرزها تراجع إيرادات النفط وذلك بسبب التخفيض الطوعي لإنتاج النفط السعودي، لينخفض -نتيجة لذلك- الإنتاج من أكثر من 10 ملايين برميل يوميا إلى 9 ملايين فقط.
وقد انعكس ذلك بوضوح على حجم الإيرادات غير النفطية، التي كان قوامها 857 مليار في 2022 تراجعت إلى 755 مليار في 2023 وحافظت على ذات المستوى في 2024 (758 مليار ريال)، في حين تواصل نمو الإيرادات غير النفطية لذات الفترة من 411 مليار إلى 458 مليار إلى 472 مليار ريال للأعوام 2022 و2023 و2024 على التوالي.
وقد أدى ذلك لنمو حقيقي في الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023 بنحو 0.3%، وفي 2024 تشير التقديرات إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي بنحو 0.8%، حيث كان النمو في 2024 مرتكزاً في الأساس على نمو الأنشطة غير النفطية (3.7%)، التي كان لها دور في تحصين الاقتصاد السعودي من الدخول في انكماش في 2024، إذ تجدر الإشارة إلى أن الأنشطة غير النفطية، وتحديداً أنشطة القطاع الخاص حققت نمواً متواصلاً منذ الربع الرابع لعام 2021.
وفي المحصلة، فإن سياسة تعزيز الانفتاح اقتصادي تتحرك بسمت يتسق مع الإستراتيجيات المعلنة، من خلال توفير عديد من الحوافز للمستثمرين الأجانب، والسعي دائما للارتقاء بجاذبية بيئة الاستثمار المحلي والأجنبي، عبر تسهيل إجراءات تأسيس الأعمال وإصدار التنظيمات واللوائح، واللجوء إلى خيارات جديدة لحفز النمو والتنويع الاقتصادي، وذلك يظهر في إقبال الشركات العالمية الاستفادة من مبادرة نقل المقار الإقليمية، وكذلك في تيسر الاستثمار الأجنبي من خلال تحديث الأدوات التنظيمية وأهمها صدور نظام الاستثمار الذي يستهدف تشجيع الاستثمار المحلي والوافد على حدٍ سواء.
ورغم أن القطاع النفطي ما برح يحتل أهمية جوهرية في الاقتصاد السعودي، ولكن نمو القطاع غير النفطي بدأ يأخذ مساراً مستقلاً ويسجل نموا صحيا أقل ارتباطاً بارتفاعات وانخفاضات أسعار النفط، ويتضح ذلك من خلال تمكن الاقتصاد السعودي من أن ينمو رغم انكماش قطاع النفط، وأن يحقق بعض أهم مستهدفات رؤية السعودية 2030 رغم تراجع مساهمة النفط.
ومن تلك المستهدفات تحديداً تدني معدل البطالة إلى أدنى مستوى تاريخي (7.1%)، وتحقيق المرأة المواطنة مشاركة في سوق العمل تتجاوز 34%، ومرد ذلك تسارع عجلة خلق الوظائف في الأنشطة غير النفطية، حيث بلغ عدد المواطنين العاملين في القطاع الخاص 2.4 مليون (1.4 مليون ذكور و973 ألف سعودية) فقد بلغت مساهمة الأنشطة غير النفطية 53% من القيمة المضافة التي يولدها الاقتصاد السعودي، وهذه محطة مهمة على طريق تحقيق المستهدف الأكثر تحدياً وهو وصول مساهمة القطاع الخاص إلى 65% من الناتج المحلي الإجمالي.