اقتصاد السعودية .. وكأس العالم

وأخيرا تمت تسمية السعودية مستضيفا رسميا لكأس العالم 2034، وكأول دولة في العالم تنظم هذا الحدث الرياضي العالمي بعدد 48 منتخبا وعلى أرض دولة واحدة. دعوني أنطلق من التأكيد على أن بطولة كأس العالم ليست حدثاً رياضياً فحسب، بل هي حدث عالمي رياضي ثقافي سياحي اجتماعي اقتصادي، بل وحتى سياسي في أحيان كثيرة، تتعدى تأثيراته فترة تنظيمه إلى ما قبله وما بعده. فكثير من الدول التي استضافت هذه البطولة على مدى تاريخها الممتد لأكثر من 94 عاما تغيرت 180 درجة بعد تنظيمها هذا المونديال الحيوي.

كأس العالم في جميع النسخ السابقة أحدثت تغييرا جوهريا في المجتمعات وفي اقتصادات الدول التي جرت فيها، فمثلا جنوب إفريقيا ما قبل تنظيم البطولة ليست كجنوب إفريقيا ما بعد كأس العالم، حققت هذه الدولة بعد الاستضافة نقلة على مستوى مشاريع البنية التحتية والتعليم والتقنية والرياضة، أهلتها لاحقا لأن تكون ضمن أكبر 20 اقتصادا في العالم، وحققت أرقاما اقتصادية عجزت عنها جميع دول القارة الإفريقية حتى الآن، وكأس العالم كانت أحد المسببات في دعم نموها الاقتصادي. 

روسيا مثال جيد آخر، فهي اليوم ليست كحالة قبل كأس العالم عندما استضافتها 2018، ولولا الحرب في أوكرانيا لواصلت تلك المكاسب، فقد تحولت موسكو بعد كأس العالم إلى قبلة للسياح.

قطر الجارة مثال قوي آخر.. فقد جعلتها كأس العالم تنفذ بنية تحتية من مواصلات وملاعب ووسائل نقل ومناطق ترفيهية تخدمها لـ100 عام مقبلة، وقد أحدثت البطولة تغييرا جوهريا للمجتمع وأيضاً للصورة الإيجابية عن قطر في أذهان العالم. 

السعودية قدّر الله لها دائماً أن تكون استثنائية في استضافاتها، ولديها تاريخ مميز وعدد هائل من المناسبات الكبيرة التي نفذتها ونجحت فيها، وكانت في معظم تلك الاستضافات هي الأولى أيضاً. فقد نظمت قمة عالمية جمعت 50 قائد وزعيم بلد عربي وإسلامي، وكان هذا للمرة الأولى في التاريخ.

وهنا لا بد أن نشير إلى أن السعودية تنظم سنوياً زيارة 2 إلى 3 ملايين مسلم من جميع أنحاء العالم لأداء الحج، وملايين آخرين لأداء العمرة، ما أهلها لأن تكون الأولى في إدارة الحشود بشهادات دولية، كما استضافت أهم قمة عشرين في تاريخها عندما كان العالم يواجه جائحة كورونا. نجحت السعودية أيضا في تنظيم بطولات عالمية كبرى مثل كأس السعودية للخيول وبطولات الرالي والجولف والملاكمة وعشرات من الأحداث والبطولات الأخرى، وباتت اليوم أقرب إلى الأحداث العالمية من أي وقت مضى، واليوم تأتي وهي بصدد استضافة أول نسخة بمشاركة 48 منتخبًا في بلد واحد وكأس آسيا 2027 والأولمبياد الشتوي 2029.

التأثيرات المترتبة على استعدادات السعودية لتنفيذ متطلبات استضافة البطولة خلال السنوات الـ10 المقبلة والتي تتزامن مع تنفيذ وإغلاق مشاريع رؤية 2030 تجعل الأثر الذي ستتركه في 5 مدن رئيسية مستضيفة للمباريات و15 مدينة بفعاليات مصاحبة والسعودية عموما هائلا في كل المجالات، انطلاقا من هيكل البنية التحتية والثقافية والاقتصادية وقطاعات الرياضة والسياحة والترفيه والطيران والنقل والعقارات، وصولا إلى التسويق والإعلام والضيافة وغيرها من القطاعات ذات الصلة.

تكاليف الاستضافة في السعودية لن تكون عالية حتى على مستوى القدرات البشرية، لأنها جاهزة من مشاريع رؤية 2030 وما قبلها، ولن تكون الحال كما في قطر التي أنفقت 220 مليار دولار لتجهيز متطلبات كأس العالم، بينما أنفقت كوريا على سبيل المثال 7 مليارات دولار، لأنها كانت متقدمة حينها. العوائد السعودية المباشرة من الاستضافة ستكون أعلى من غيرها لأن أعداد المنتخبات والجمهور ستكون أكبر، ولأن المكاسب ليست فترة التنظيم فقط بل سنوات عديدة بعد ذلك.

تنظيم كأس العالم حملة تسويقية للبلد المستضيف، يجذب المستثمرين الأجانب لمشاريع البطولة ويقرب الدولة المستضيفة من كل ركن وقرية في العالم تتابع الحدث.. لك أن تتخيل أن البطولة تبث طوال اليوم وطوال فترة الحدث في أكثر من 200 دولة، وبلغ العدد التراكمي للمشاهدين 134.7 مليار مشاهدة في آخر 5 نسخ وفقا لبيانات وإيرادات فيفا من البطولة التي تجاوزت في آخر 5 بطولات 16 مليار دولار. 

وللإحاطة دول العالم المستضيفة لآخر 5 نسخ حققت 100 مليار دولار من تنظيم كأس العالم فقط، 70 مليار دولار هي عوائد مباشرة للدول المستضيفة، 23 مليار دولار هي مكاسب "فيفا". 16.3 مليون تذكرة مبيعة في آخر 5 بطولات من كأس العالم بمعدل 3.4 مليون تذكرة، وبلغ عدد زوار قطر نحو 1.5 مليون خلال البطولة. 

السعودية التي تخطط لبناء وإعادة ترميم 134 منشأة رياضية سعودية قبل مونديال كأس العالم 2034، تتوقع حضور 4 ملايين مشجع نصفهم من الخارج، ويتوقع أن يلامس معدل إنفاقهم حاجز 80 مليار ريال وفق خبراء اقتصاديين تحدثوا للاقتصادية.

مكاسب السعودية الاقتصادية والتأثيرات التي سيحدثها تنظيم البطولة فيها وفي مجتمعها لا يمكن حصرها في مقال، لكن لعلي أشدد على أن قطاعات السياحة والضيافة، البنية التحتية والنقل، العقارات، التجارة والتجزئة، القطاع المالي والمصرفي، العمل والفرص الوظيفية، الطيران والنقل الجوي، التكنولوجيا والابتكار، والتسويق والإعلام، ستكون بحلول 2034 وما بعده مختلفة عما نحن عليه اليوم. 10سنوات في عمر المجتمعات والشعوب ليست فترة كبيرة، لكن السعودية التي تستهدف رفع مساهمة القطاع الرياضي في الناتج المحلي بنحو 82 مليار ريال بحلول 2030 انطلقت منذ عدة سنوات سابقة ولديها تجارب عديدة ستجعل من المهمة سهلة رغم التحديات. نحن أمام حدث كبير سيغير من شكل اقتصادها، سيصل إلى المدارس، سيصل إلى الجامعات، وأيضا إلى المدن والأرياف. وإلى كل مكان فيها. أعتقد أن السعودية بعد رؤية 2030 وبتنظيم معرض إكسبو 2030 وكأس العالم 2034 ستكون في منطقة أعلى بين مصاف دول العالم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي