إحياء الأرض الموات بين الفقه والواقع (1 من 2)

ورد في الروض المربع: بخلاف الطرق والأفنية ومسيل المياه والمحتطبات ونحوها، فهذه لا تملك بالإحياء عما تعلقت به مصلحة العامر: (كطرقه وفنائه ومسيل مائه ومطرح قمامته ومحتطبه وحريمه ومرتكض الخيل ومدفن الأموات ''ولو قبل الاستعمال للدفن'' ومناخ الإبل، فهذا لا يملك بالإحياء ولا يقطعه الإمام لتعلق حقه به).
كما ورد في تحفة الفقهاء: (والأرض المباحة وتسمى الموات نوعان: أحدهما ما يكون تبعا لبعض القرى مرعى لمواشيهم ومحتطبا لهم، فهي حقهم ولا يجوز للإمام أن يقطعها من أحد؛ لأن في ذلك ضرر بهؤلاء وليس لهم أن يمنعوها عن غيرهم؛ لأنها ليست بملك لهم.. والنوع الثاني ما لا يكون تبعا لقرية من القرى، فهي على الإباحة من أحياها بإذن الإمام عند أبي حنيفة تكون ملكا له، هذه بعض تعريفات الأرض الموات.

التعدي على الأرض الموات
من أحيا أرضا ميتة فهي له، وفي رواية من أحيا أرضا ليست لأحد فهي له من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له: العباد عباد الله والبلاد بلاد الله فمن أحيا من موات الأرض شيئا فهو له، وحديث من أحاط حائطا على أرض فهي له، وحديث: عادي الأرض لله ولرسوله ثم لكم من بعد فمن أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين.

الأراضي المقرر تخطيطها ليست من الموات
حيث اشترط الفقهاء في إباحة الإحياء أن: (لا يكون قريبا من عامر وتعلق بمصالحة كطرقة وفنائه ومخرج فضلات مائة ومرعاه ومحتطبه ومطرح ترابه وقمامته وملقى آلاته التي لا نفع بها)(1).
ويقول عليه السلام: ''من اقتطع من الأرض شبرا ظلما طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين''، ولفظ البخاري: ''من ظلم من الأرض شيئا طوقه من سبع أرضين''، وليس أشد ظلما من حرمان المسلمين من حق التنظيم ومن الطرق والمساجد والمرافق والأحمية بجميع أنواعها التي يستفيد منها عامة الناس.
من الأهداف الأساسية لقاعدة الإحياء: إثراء الحياة الاقتصادية:
إن من يتبع المقاصد العامة للتشريع الإسلامي ويمعن النظر في ألفاظ الأحاديث الواردة بشأن الإحياء يجد أنها جزء من منهج عام واضح يهدف إلى استنهاض الأمة ودفعها إلى العمل النافع والكدح المثمر والتنفير من الكسل والتخاذل والتواكل والقعود لإنعاش الحياة الاقتصادية الراكدة للمسلمين واستنهاضهم لاستثمار الأرض واستخراج خيراتها والتسابق في العمل النافع والجهد المثمر.
أما قوله عليه السلام فيما رواه الشيخان: ''من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه''، فهو واضح أنه عليه الصلاة والسلام يرى أن الأرض ثروة عامة لا يجوز تعطيلها؛ لأنه ينبغي أن تسهم الأرض في إثراء حياة المسلمين، وأن تعمل على رفع مستوى المعيشة بينهم، وإلى هذا المعنى يشير الحديث الذي رواه أبو هريرة ــــــ رضي الله عنه ـــــ قال: (رأيت النبي ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ إذا أتى بباكورة ـــــ وهي أول الثمر ـــــ وضعها على عينيه ثم شفتيه وقال: ''اللهم كما أريتنا أوله فأرنا آخره''، ثم يعطيه من يكون حوله من الصبيان..)، وكذا قوله عليه الصلاة والسلام: ''من غرس شجرة فصبر على حفظها والقيام عليها حتى تثمر فكل شيء يصاحب من ثمرها فهو صدقة''. وورد قوله عليه الصلاة والسلام: ''من غرس غرسا كتب الله له من الأجر بقدر ما يخرج من ثمار ذلك الغرس''.
ولدينا قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ''لو قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليفعل وله بذلك أجر''.
ومما يؤكد ذلك المعنى ما رواه مسلم: ''أيما قوم أحيوا شيئا من الأرض أو عمروها فهم أحق بها''، والأحقية غير الملكية، ومن كل ذلك يتضح أن قصد الشارع هو تحويل الأرض الموات إلى أرض صالحة للإنتاج والعطاء والإثمار، وبهذا الصدد يقول الأستاذ محمود المظفر: ''إن الملكية أو الاختصاص لا ينشآن إلا بعد نقل الأرض الموات نقلا فعليا من حالتها المجدية إلى حالة الخصوبة والنشاط''.
وبما أن الغرض من الإقطاع هو الإحياء للمنفعة العامة لا مجرد التمليك، فقد استنبط الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ــــ رضي الله عنه ــــ أن من ترك إقطاعه من دون إحياء مدة طويلة سقط حقه فيه، وقد روى أبو عبيد ويحيى بن آدم في إقطاع بلال بن الحارث أنه لم يقو على إحياء العقيق كله، فلما كانت خلافة عمر قال له: (إن رسول الله ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ لم يقطعك لتحجزه على الناس، إنما أقطعك لتعمل فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي)، وفي رواية يحيى بن آدم أن عمر قال له: (يا بلال إنك استقطعت رسول الله أرضا فقطعها لك، وأنت لا تطيق ما في يدك، فقال: أجل، فقال عمر: (فانظر ما قويت عليه منها فأمسكه، وما لم تطق فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين، فقال: لا أفعل هذا شيء اقطعنيه رسول الله، فقال عمر: والله لتفعلن، وأخذ منه ما عجز من عمارته فقسمه بين المسلمين).
مبدأ الإقطاع الشرعي يدل على أن الأراضي تحت مسؤولية الدولة، فمن حقها المنع والمنح:
تؤكد الأحاديث والآثار الثابتة عن الرسول ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ وخلفائه الراشدين أنهم كانوا يقطعون القطائع من الأرض الموات، ما يؤكد أن الإسلام يعتبرها من الأموال العامة الخاضعة لهيمنة الدولة، حيث يجوز للإمام أو الحكومة التصرف فيها بالمنح أو المنع.
ويقول الأستاذ محمود أبو السعود: (إذا ارتأت الدولة أن تنفرد بملكية معينة فلا يصح للفرد أن يتملكه، ويعد هذا من القواعد العامة؛ إذ على الفرد أن يخضع للدولة).
ذلك بأن الشريعة ـــــ كما يقول الأستاذ مصطفى الزرقاء ـــــ قد ''قررت لممثل السلطة العليا الإمام في الدولة صلاحيات إدارية تنفيذية غير محدودة، ففي يده تتمركز جميع السلطات التنفيذية ومن جملتها إصدار الأوامر الزمنية والأنظمة التي لها اليوم في عرف الدولة صفة تشريعية).
فحثه عليه السلام للصحابة على الإحياء هو من قبيل التنظيمات الإدارية التي يتوخى فيها مصلحة المسلمين العامة، فلقد كانت أحوال الأمة وظروف الحياة تتيح المجال لمثل ذلك الإذن العام من أجل أن ينهض الناس لاستثمار الأرض وإنعاش الاقتصاد وإثراء الحياة العامة للأمة.
يقول الشيخ المودودي في معرض كلامه عن الإحياء: (وللحكومة أن تسلم بحقه وتقر عليه؛ أي ولها عدم التسليم بهذا التصرف وعدم إقراره تبعا لما تقتضيه المصلحة العامة).
إباحية إحياء الأرض الموات القريبة من العمران موقوفة على إذن الإمام، ومن المؤكد أن الحكم نفسه ينطبق على الأراضي البعيدة أيضا إذا كانت ضمن برامج التنمية الزراعية التي تخطط لها الدولة لتكفل حسن الاستثمار وعدالة التوزيع وعدم استنزاف المياه إلا وفق خطة علمية مقننة.

(1) انظر باب إحياء الموات في المغني ج (6) ص 151.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي