ليتك تركته يواجه العالم
«لقد لاقيت قدرا هائلا من المشقة في تعليمه يا سيدي، ليتك تركته يواجه العالم في الشارع عندما كان طفلا ليصبح ذاته، تلك هي الطريقة الوحيدة التي تصنع بها فتى قويا شديدا».
توحي لك العبارة السابقة - الواردة على لسان إحدى الشخصيات الروائية للكاتب تشارلز ديكنز- أن الكثير من الأشياء المهم تعلمها في هذه الحياة لا يمكن تدريسها في فصل دراسي رسمي، وأن التعلم يحدث لنا دوما وفي كل مكان، فهو لا يقتصر على التلقي السلبي للحقائق في المدرسة أو الجامعة، فهناك نحن نتعلم عن الحياة، ومع أنه تعلم مهم لكن الأكثر فائدة منه هو التعلم من خلال الحياة، فهذا النوع من التعلم هو الذي يصنع الاختلاف وثراء التجربة الشخصية لدى الفرد.
لكي يكون للمرء دور قيادي مؤثر فمن المحتم عليه أن يفهم الكثير عن هذا العالم بنفس الدرجة التي يفهم بها نفسه، وأفضل تعلم هو الذي تتعلمه على طريقتك ومن خلال تجاربك، وهناك الكثير من الوسائل المدعمة لذلك، التي لا تقتصر على التعليم التقليدي كالكثير من السفر والاغتراب، الانخراط في مغامرات جريئة وتعلم المزيد من الهوايات، اكتساب لغات جديدة، الاندماج مع شرائح متباينة من المجتمع، الاختلاط مع شعوب مختلفة بدافع التعلم من الاختلاف لا للنقد والتعالي، ممارسة حياة خاصة ثرية بالتأمل والاستفادة من تجارب الماضي، القراءة في كتب مختلفة التخصصات، مشاهدة الأفلام العالمية الحاصلة على الجوائز، عقد ارتباطات قوية مع المفكرين وأصحاب الرؤية، وبعبارة أخرى، فإن الحياة هي مدرسة مستمرة ثرية بالدروس، والتعلم هو تجربة تحول شخصي مستمر، لأن الشخص لا يجمع العلم باعتباره ممتلكات، لكنه يسعى من خلال معارفه وتجاربه لأن يكون شخصا جديدا، فالتعلم لا يعني أن تمتلك المعلومات بل أن تكونها، ويعني المزيد من حرية التحرك، فكلما زاد ما نعرفه عن أنفسنا والعالم أصبحنا أكثر ثقة في التقدم نحو إنجاز ما نريد، ولذلك فهو الطريقة الأقوى لتغيير أنفسنا والاقتراب مما نود أن نكون عليه، لأنه يعيد تشكيل نماذجنا العقلية من خلال استخدام حلقات التغذية الراجعة التي تعود علينا بعد كل عملية تعلم، التي نبني قراراتنا التالية على ضوء المعلومات المستقبلة منها، أي أن المزيد من الخبرات والتجارب يؤدي للمزيد من المعارف، وذلك يقودنا للمزيد من التغذية الراجعة، وبالتالي المزيد من القرارات نحو الصورة التي نودها، وعلينا أن نستمر في التعلم حتى نحافظ على بقائنا في هذه الحياة، لأن العالم لا يظل، كما هو، بل يتحرك باستمرار، وحتى نحافظ على توازننا أو نبقى في مكاننا على الأقل، فعلينا تحريك أنفسنا طوال الوقت، ويشبه ذلك محاولتنا الوقوف في البحر وحولنا الأمواج الصاخبة المتحركة، فلا بد أننا سوف نفقد توازننا ونغرق إذا بقينا ساكنين بدون حركة، لكن عملية الحفاظ على حياتنا أمام هذه الأمواج تستلزم التحرك المتتابع والقيام بعملية التوازن الحركي الديناميكي من خلال السباحة بأجسادنا، والتحرك بوعي وإصرار نحو الشاطئ المطلوب.
إن معرفة الذات ثم ابتكار دور الذات هما عمليتان مستمرتان تتشكلان من التعلم واستقبال التغذية الراجعة، وتنبع دوافعها من إدراك المرء للفجوة بين ما هو عليه وما يرغب أن يصبح عليه، ولا أحد- بما في ذلك الوالدان والمدرسون والأصدقاء- يستطيع تعليمك كيف تصبح نفسك أو تتولى المسؤولية في التعبير عن نفسك إلا أنت، ومع اعتبارنا لحسن نواياهم فهم يعلموننا في معظم الأحيان الكثير من الأمور إلا أن نكون أنفسنا.