المسؤولية التاريخية والمسؤولية الأخلاقية
<a href="mailto:[email protected]">nsabhan@hotmail.com</a>
تتحمل بريطانيا وريثة الإمبراطورية التي غربت عنها الشمس مسؤولية تاريخية ليس في مقدورها التنصل منها ومن تبعاتها فيما تعرّض له الشعب الفلسطيني من جور وسلب حقوق تمثل في اغتصاب وطنه من بين يديه وتسليمه للصهيونية لتقيم عليه كيانا زيفته من أساطير توارثية بوعد "بلفور"، الذي أعطى من لا يملك لمن ليس له حق. وتقع هذه المسؤولية على بريطانيا لكونها الدولة المستعمرة لفلسطين العربية المسلمة، والتي أؤتمنت عليها بالانتداب، ولكنها لم تف بأمانتها حين سهلت للصهيونية جلب اليهود من شتى بقاع العالم ليكونوا شعبا مركبا من عدة قوميات ليقيموا دولة لهم على حساب الشعب الفلسطيني صاحب الأرض والوطن الأصلي والحقيقي، وعندما ضمنت توافر قدرة اليهود ومن خلفهم الصهيونية على السيطرة وتوافر السلاح الكافي بأيديهم قامت بالانسحاب دون أن تعلن استقلال فلسطين، كما فعلت مع بقية مستعمراتها لتعطي اليهود الفرصة لإعلان دولتهم المصطنعة سياسيا والمزيفة تاريخيا.
واليوم نرى أن المسؤولية انتقلت إلى الولايات المتحدة مع بقاء بريطانيا مسؤولة رئيسة، فباتت الولايات المتحدة تتحمل في هذا الوقت مسؤولية أخلاقية وإنسانية، بل قانونية عما يتعرّض له الشعب الفلسطيني من عدوان إسرائيلي مستمر ومتواصل، وتتحدد هذه المسؤولية في كون واشنطن تؤمن غطاء سياسياً للعدوانية الإسرائيلية، خصوصا في هذا الوقت الذي تمارس فيه دولة العدو الصهيوني ما يتعدى وصفه بالعدوان إلى ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة والضفة الغربية بما يوصف عن حق بأعمال إرهابية فاضحة تتجلى في تدمير البنية التحتية على هشاشتها بقصفها محطات الكهرباء والمياه والمدارس والمستشفيات ومؤسسات الحكومة الفلسطينية وتجريف الأراضي الزراعية، وممارسة القتل العشوائي للمدنيين الفلسطينيين بهدف الترويع والترهيب بنزعة إجرامية وعنصرية مقيتة، كما فعلت في ساحل غزة، حينما قصفت زوارقه الحربية المتنزهين والتي عكسها صياح تلك الطفلة الفلسطينية الدامي للقلوب، وقيامها بعمليات خطف للمسؤولين الفلسطينيين ونواب في المجلس التشريعي الفلسطيني، واقتحام قواتها المدن والقرى الفلسطينية اليومي لاعتقال من تسميهم المطلوبين في تعدٍ وتحدٍ صارخ لكل قوانين ما يُقال له الشرعية الدولية وتجاهل لكل الاتفاقيات التي لم تحترم من أي حكومة إسرائيلية يوما، ومما يؤيد تحمل الولايات المتحدة مسؤولية أخلاقية وإنسانية يحملها بالتبعية مسؤولية قانونية إلى جانب تأمين حماية سياسية لكيان هذا العدو الصهيوني تعفيه من أي مساءلة دولية ما تقدمه واشنطن من دعم اقتصادي وعسكري كاملين على الرغم من ممارساته العدوانية والإرهابية، والمتمثلة في هذه الجرائم الفظيعة التي ترتكبها تحت نظر وبصر وسمع العالم بحجة اللازمة الأمريكية المعتادة، وهي حق الدفاع عن النفس..!!
إذا كانت مسؤولية بريطانيا التاريخية والتي تحوّلت بتقادم الزمن لمسؤولية أدبية إلى حد كبير انحصرت في مسؤوليتها عن نشوء المشكلة، حين أعطت فلسطين للصهيونية مع عدم إعفائها من تبعات هذه المسؤولية، فإن مسؤولية الولايات المتحدة هي مسؤولية عينية لكونها الداعم الرسمي والفعلي والأكبر لعدوانية هذه الدولة العنصرية الإرهابية حاليا، فالسلاح الذي تستخدمه في عدوانها هو سلاح أمريكي، وتحصل على الرغم من سجلها الأسود على دعم مالي يأتيها من الخزانة الأمريكية بعشرات المليارات سنويا كمساعدات وهبات وضمانات قروض، وفوق ذلك كله تحظى بحماية سياسية أمريكية على المستوى الدولي يعفيها من أي مساءلة على أعمالها وتصرفاتها الخارجة على أي قانون وشرعية، وأبرز مثال على ذلك الموقف الأمريكي الدائم باستخدام حق النقض لإفشال أي قرار فيه إدانة ولو لفظية لممارسات العدو القمعية والعدوانية، وأقربها موقفها المستخف بالشرعية الدولية أن وجدت فعلا في اجتماع مجلس الأمن الأخير الذي عقد بطلب عربي - إيراني لمناقشة الموقف مما ترتكبه قوات العدو الإسرائيلي من عدوان على الفلسطينيين، والذي عبّر عنه بكل صلف واستهتار المندوب الأمريكي، والذي يمثل بحق صورة الأمريكي الكريه، وهو يصرف الأنظار مستخفا بفهم الآخرين باتهام سورية بأنها هي السبب وليس كيان العدو، والذي لم ير في تحليق طائراته الحربية فوق قصر الرئيس السوري في اللاذقية أثناء وجوده فيه عملا استفزازيا وعدوانيا..!!
إن ما جرى ويجري في الأراضي الفلسطينية، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية هو أبشع صور الإرهاب ضد شعب كامل والممارس بآلة حربية لا ترحم وبدافع عنصري ونوازع إجرامية يتضاءل عندها كل ما سبقها من جرائم على مدى التاريخ الإنساني بما فيها جرائم النازية التي يتباكى منها اليهود حتى يومنا هذا دون أن يتعظوا. ورغم فظاعة وشناعة هذه الممارسات الصهيونية، إلا أنها تحصل على حماية أمريكية سياسية ودعم عسكري واقتصادي مكّن آلة الحرب الإسرائيلية من تصاعد عدوانيتها العنصرية، وهو ما يحمل الولايات المتحدة كامل المسؤولية التي لن تعفى منها بمرور الزمن، فالمسؤولية عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية والتي يتشارك فيها الفاعل مع الداعم مع المتسبب مع الصامت عليها، كما يتعرّض له الشعب الفلسطيني على مدى ما يزيد على نصف قرن لن تسقط بالتقادم، فالزمن متقلب والشعوب الحية تظل ذاكرتها عصية على المسح والمسخ.
وفي هذا السياق لا بد أن نشيد بشجاعة دولة مثل سويسرا التي أصدرت وزارة خارجيتها بيانا واضحا أدان العدوان الإسرائيلي بعبارات محددة وليست باهتة كقول البعض إيقاف العنف المتبادل. أيضا نشجع النخب اليهودية الواعية والمدركة بالتجربة والحس الإنساني احتذاء حذو النخب اليهودية في بريطانيا من مفكرين وفنانين وصحافيين وأطباء وأساتذة جامعات، والذين أصدروا بيانا نشر في صفحة كاملة في صحيفة بريطانية يصفون فيه الممارسات الإسرائيلية على أنها أعمال لا إنسانية ويتنصلون من مسؤولية ارتكابها، فمثل هذه المواقف الشجاعة بداية لكسر هذا المقدس السياسي، وهو نقد إسرائيل التي تراها واشنطن دائما أنها على حق..!!