لماذا لم يحج الملك عبد العزيز عام 1360هـ؟
من المتعارف عليه عند المتقدمين والمتأخرين من الباحثين والمؤرخين أن خدمة الحج والحجيج شرف عظيم لا يضاهيه شرف بالنسبة لمن شرف بخدمة الحرمين الشريفين من حكام المسلمين عبر العصور. ولم يكن الملك عبد العزيز، رحمه الله بمعزل من أولئك الحكام الذين تميزوا بهذا الشرف، ولذلك وضع الملك عبد العزيز رعاية شؤون الحج والحجيج وخدمتها في أوليات اهتماماته منذ انضمام الحجاز إلى الدولة السعودية.
وقد تنوعت تلك الاهتمامات وتعددت، مما يصعب معه حصرها والحديث عنها في مثل هذا المقام، حيث استغرقت بعض تلك الجوانب رسائل علمية مفردة مثل الرسائل العلمية التي بعنوان: "مرافق الحج وخدمتها المدنية في عهد الملك عبد العزيز" للباحث وليد بن محمد جميل، فكيف بالحديث عن هذه الجوانب جميعاً. ولذلك سنكتفي هنا بإيراد بعض النماذج والأمثلة التي تدل على تلك اللفتات الخيرة من قبل الملك عبد العزيز – رحمه الله – دون الدخول في بقية التفصيلات، معتمداً في ذلك على ما ورد في دراسة سابقة وشاملة عن "الملك عبد العزيز والعمل الخيري".
وأول مثال نورده هنا يدل على عناية الملك عبد العزيز بالحج والحجيج هو حرصه – رحمه الله – على أن يكون بنفسه على قيادة موكب الحج منذ أن انضم الحجاز إلى حكمه إلى وفاته، يرحمه الله.
فخلال تلك الفترة التي بلغت نحو ثلاثين عاماً لم يتخلف – رحمه الله – عن إمارة الحج إلا ست مرات ، أناب في اثنتين منها نائبه في الحجاز الأمير فيصل بن عبد العزيز، وأربع منها أناب فيها ولي عهده الأمير سعود بن عبد العزيز.
وكان تخلف الملك عبد العزيز في تلك السنين إما لعجزه صحياً عن ذلك خاصة في أواخر حياته، رحمه الله، أو لرغبته في توفير نفقات الحج، لتوزيعها على الفقراء والمحتاجين كما فعل في الحج عام 1360هـ.
وهي من اللفتات الطيبة التي تسجل للملك عبد العزيز وتدل على سعة إدراكه وحسن تصرفه في الأزمات.
يقول الملك عبد العزيز في برقية (تشبه البلاغ العام) بعث بها إلى عدد من الجهات والبلدان عن ذلك: "هذه السنة عزمنا على عدم الحج والقصد من ذلك توفير المصاريف لأجل توزيعها على الفقراء والمحتاجين في البلاد، أحببنا نخبركم في ذلك لأجل تخبرون أطرافكم لئلا يستنكرون عدم حجنا وهو ولله الحمد ما هنا سبب غير ما ذكر البادية وأهل الهجر أركبوا لهم وخبروهم وأهل البلد أعلنوا لهم ذلك".
وصورة البرقية محفوظة في دارة الملك عبد العزيز" برقم 152، ومنشور نسخة منها في كتاب "من وثائقنا الملك عبد العزيز إصدار المهرجان الوطني ص371.
ومن الجوانب المهمة في شؤون الحج التي اهتم بها – رحمه الله – الجانب الصحي. ففي هذا الجانب، مثلاً، حرص الملك عبد العزيز على تتبع الأحوال الصحية للحجاج وتفقد أحوالهم منذ أول عام للحج تحت رعايته، حيث خصص لذلك مقراً وطبيباً لمعاينة المرضى خصوصاً الفقراء منهم، وجاء في التعليمات الصادرة بهذا الخصوص من جلالته لنائبه في الحجاز عام 1344هـ"...تخبرون جميع مشايخ المطوفين على أنه يلزم عليهم ينبهون على جميع المطوفين الذي يصير عنده مريض من حجاجه يلزم يخبر الدكتور خيري بالصحية حتى يحضر لمعاينته والكشف على صحته، فإن كان المريض فقير الحال ويجب نقله إلى الصحية نقلوه وأجروا مباشرته. وإن كان ميسر الحال ويجب بقاؤه في محله فيبقى فيه ويعوده الطبيب في الأوقات اللازمة.
المقصود تنتبهون على جميع المطوفين بها الموجب، أيضاً جميع المطوفين الذين عنده حجاج ملزوم يخبر الصحية بهم وبعددهم وبمحلات سكناهم حتى تتمكن الصحية من الكشف على صحتهم وعلى محلات سكانهم وتعمل من التدابير اللازمة لحفظ صحتهم..".
ومن دلالات حرص الملك عبد العزيز – رحمه الله – على رعاية الحج والحجيج وتتبع ما يصلح شؤونهم ودفعها إلى الأفضل أمره عام 1347هـ بتأسيس مدرسة لتعليم المطوفين وتوليهم، يتلقون فيها دروساً في علم التوحيد، والعادات، والمناسك وأدائها حسب ما دونه علماء السلف والأئمة الأربعة، كما يتعلمون فيها ما يجب على المطوفين لحجاج بيت الله الحرام من حسن الوفادة وتسهيل وسائل الراحة.
وفي العام نفسه تم افتتاح المدرسة وكان مقرها المسجد الحرام، وتقرر أن تكون الدراسة فيها سنة واحدة.
ويبدو أن نجاح المدرسة في تقديم المفيد للمطوفين دفع المسؤولين إلى إلزام جميع المطوفين للالتحاق بها، حيث تقرر "أنه لن يسمح بعد عام 1348هـ لأي مطوف أن يزاول عمله ما لم يكن قد حصل على شهادة من هذه المدرسة".
ودعماً للمدرسة صدر في العام نفسه قرار بتكليف مجموعة من كبار العلماء ورواد المعلمين للتدريس في هذه المدرسة وهم كل من المشايخ: " الشيخ عبد الظاهر أبو السمح إمام الحرم المكي، والشيخ بهجت البيطار، والشيخ محمد حامد الفقي من علماء مصر الوافدين ومؤسس جماعة أنصار السنة المحمدية في مصر، والشيخ عبد الرزاق حمزة، والشيخ سليمان أباظة، والشيخ عمر حمدان من علماء تونس الوافدين للتعليم في مكة المكرمة، والشيخ جمال مكي".
وكان من نماذج اهتمام الملك عبد العزيز – رحمه الله – بشؤون الحج والحجيج، أمره الكريم في رمضان من عام 1371هـ بإلغاء الرسوم الحكومية التي كانت تؤخذ على الحجاج القادمين من الخارج، نظير بعض الخدمات التي تقدم لهم والمعروفة باسم (رسوم الحج). حيث تنازلت الحكومة عن حقها في ذلك، أما ما يخص حقوق المطوفين على الحجاج فقد ترك أمرها "بين الحجاج وبين أرباب الخدمات المعنيين أنفسهم".
كما وضع الملك عبد العزيز على رأس اهتماماته بخدمة الحج والحجيج توجيه عناية خاصة بمشروعات السقيا وتوفير المياه للحجيج في مكة المكرمة ومشاعرها، وللزوار والمقيمين في المدينة المنورة، وتوفير المياه في المحطات الأخرى للحجاج، مثل مدينة جدة باعتبارها إحدى المحطات المهمة من محطات الحجاج وبالذات القادمين منهم من الخارج عن طريق البواخر إلى جدة.
فمن نماذج اهتمامه بتوفير المياه في مكة المكرمة تشكيل هيئة خاصة لرعاية مياه عين زبيدة وزيادة مواردها من المياه، والمحافظة على تلك المياه من خلال تجديد مجاريها. كذلك أصدر أوامره – رحمه الله – عام 1370هـ بالبحث عن عين أخرى مساندة لها، وتم حينئذ افتتاح العين الجديدة أو العين عزيزية التي كانت خير رافد يمد الحجاج والمقيمين في مكة المكرمة بالمياه العذبة منذ شوال عام 1371هـ.
ومن نماذج اهتماماته بتوفير مياه الشرب في جدة أمره بالعناية – رحمه الله – بالاعتناء بعين الوزيرية وإيصال المياه منها إلى بازان حلة المظلوم في جدة عام 1353هـ.
وعن ذلك يقول عبد العزيز بن عمر أمير جدة آنذاك، وفي رسالة منه إلى الملك عبد العزيز "...أقيمت حفلة توزيع ماء العين من المحل المذكور، وتليت الأدعية الخيرية لجلالة مولاي الذي كانت هذه المآثر الخيرية من جملة أياديه البيضاء على هذه البلاد، ومن ثم انصرف المدعوون وكل ما فيهم ألسنة شكر الله تعالى ودعاء لجلالتكم أدام الله توفيقاته على مولاي وأيده بعزه ونصره.
وقد زادت مياه العين المذكورة بعد نزول الأمطار ولله الحمد...".
إلى غير ذلك من الرعاية المميزة التي حرص الملك عبد العزيز على تقديمها للحجاج والمعتمرين، والتي واصل أبناؤه البررة ملوك المملكة العربية السعودية السير عليها والتنافس في تقديمها، فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
رئيس قسم التاريخ والحضارة – جامعة الإمام محمد بن سعود
* المصدر: كتاب من "وثائق الملك عبد العزيز" من إصدار المهرجان الوطني للتراث والثقافة.