إلى أي مدى نسمح للموظفين بارتكاب الأخطاء؟

في إحدى الشركات الأمريكية، اختار الرئيس التنفيذي أحد الموظفين المتميزين، وعيّنه مديرا لإحدى الإدارات.
سعى المدير الجديد جاهدا إلى إثبات نفسه يوما بعد يوم، وذات مساء عرضت عليه فكرة أن تستثمر الشركة في مشروع ما، فوافق هذا المدير على الفكرة، لكن مع مرور الوقت اتضح أن المشروع لم يكن موفقا، وكبّد الشركة خسارة بلغت عشرة ملايين دولار!
علم الرئيس التنفيذي بالأمر، فاستدعى المدير الشاب إلى مكتبه، وجاء يخطو نحو الطابق الأخير - حيث مكتب الرئيس التنفيذي - وراح المدير يفكر في جميع الاحتمالات، من ضمنها أن الرئيس سيتخذ قرارا بإنهاء خدماته على الفور نتيجة هذا الخطأ الفادح الذي ارتكبه.
دخل المدير الشاب مرتعبا على الرئيس التنفيذي ''المخضرم''، متحاشيا النظر في وجهه، فسأله الرئيس: ''هل تعلم لماذا استدعيتك لمكتبي اليوم''؟ رفع المدير الشاب رأسه، وأجاب بكل حرقة وألم: ''نعم، سيدي.. استدعيتني لكي تبلغني بقرار الفصل''.
ابتسم الرئيس التنفيذي، ورد عليه: ''من قال إننا سنفصلك؟ كيف نفصلك يا ابني بعد أن استثمرنا فيك عشرة ملايين دولار؟ إنها ''الضريبة'' التي دفعتها الشركة عنك لكي تتعلم!''.
أصر الرئيس التنفيذي على بقاء المدير الشاب في الشركة ليتعلم من أخطائه، ويتعلم أكثر كيف يصحح هذه الأخطاء، وتعويض الشركة عن الخسارة التي لحقت بها من جراء قراراته.
إنها قصة إدارية جميلة، قرأتها منذ زمن، ولا تزال عالقة أو معلقة على جدران الذاكرة، وقائع هذه القصة قلما تحدث في مؤسساتنا العربية التي ''تجرم'' ارتكاب الأخطاء، فهناك شعور بالرعب لدى شريحة واسعة من الموظفين في مؤسساتنا من ارتكاب الأخطاء، خوفا من طائلة العقوبة، وهذا التصور لـ ''العقوبة المفترضة'' تشكل بسبب النظرة القاصرة لبعض المديرين تجاه ''ارتكاب الأخطاء''.. إذ يرون أن من يرتكب خطأ يجب أن يحاسب حسابا عسيرا، دون تمييز لنوع هذا الخطأ أو درجته أو التبعات التي نتجت عنه، لكن في واقع الأمر، الأخطاء ليست كلها سواء، ويجب أن نفرق بينها، إذ هناك نوعان من الأخطاء:
- النوع الأول: خطأ الإجراء error of commission، أي أن يقوم الموظف بإنجاز عمل لكن بطريقة خاطئة، وغالبا ما يكون ذلك جهلا منه بمعرفة الإجراءات السليمة، كأن يعمد مسؤول جديد في إدارة الموارد البشرية إلى نقل موظف من إدارة إلى إدارة دون موافقة الإدارات المعنية، رغم أن الإجراء الصحيح يقتضي الحصول على موافقة مدير الإدارة المنقول منها الموظف، وموافقة مدير الإدارة المنقول إليها، قبل إتمام إجراءات النقل.
- النوع الآخر: خطأ الإهمال error of omission أي عدم قيام الموظف بإنجاز عمل مطلوب منه، بسبب النسيان أو الإهمال، وشواهده كثيرة، كأن تتهاون الممرضة في تعقيم الأدوات الطبية (النتيجة: عدوى)، أو أن ينسى موظف في شؤون المالية تسديد اشتراكات الشركة في موعدها لدى التأمينات الاجتماعية (النتيجة: غرامة)، أو أن يتهاون الفني في صيانة المركبة (النتيجة: حادث).
بعد تبيان هذه الفوارق، هل تتغير نظرتكم نحو الموظف المخطئ؟ وهل يتساوى أمامكم موظف اجتهد في عمل وأخطأ في اتباع الإجراءات السليمة، وموظف تهاون ولم يقم بالعمل المطلوب منه؟
إن عدم إدراك الفوارق بين هذين النوعين من الأخطاء أدى بالمديرين والموظفين إلى اعتبار ''الخطأ'' بمنزلة ''الجريمة''، واعتبار ''الموظف المخطئ'' مجرما، وهذا التصنيف جعل الكثير من الموظفين ''يرتجفون'' من ارتكاب الأخطاء، ويرفضون تجربة الجديد خوفا من خطأ قد يقعون فيه، لذلك يرون أنه من الأسلم لهم أن يتحصنوا في ''منطقة الراحة'' comfort zone، وهي منطقة المألوف والمعهود، التي شكلوا داخلها سلوكيات نمطية وروتينية تحميهم من مخاطر الخوض في تجربة الجديد.
أما الموظفون المبدعون فهم أولئك الذين ينعتقون من قيود منطقة الراحة، ليتعلموا درسا جديدا إما عن طريق تولي مهام جديدة أو تدريب أو تطوير وظيفي، ثم يعودون إلى منطقة الراحة، لكنهم ما يلبثون أن يخرجوا منها بعد حين.
مع العلم أن الإدارة الغربية متسامحة أكثر من الإدارة العربية، فالإدارة الأولى ترى أن الموظفين المجتهدين يرتكبون الأخطاء، والقادة العظماء من يسمحون لهم بارتكاب ذلك، لأن الإدارة الغربية ترى أن ارتكاب الموظف الخطأ (خطأ الإجراء) هو فرصة كي يتعلم خلال حياته المهنية، بشرط ألا يكرر ذلك الموظف الأخطاء ذاتها، وأن يضع تدابير تمنع حدوثها داخل المؤسسة.
وكما يقال إن المؤسسات إذا انهارت، فإنها لا تنهار لأن موظفا ارتكب خطأ إجرائيا، بل تنهار لأن موظفا نسي أن يقوم بالعمل المطلوب منه، وهذا ما يؤدي إلى حدوث ''مصائب'' لا يمكن معالجتها، وقد تطول أرواح البشر كالأخطاء الطبية أو حوادث السلامة!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي