لن نلبس رابطة العنق
يتصف النقاش الدائر على الساحة الوطنية بالصراخ والصخب أكثر منه بالحكمة والرشد، ويبدو أن حالة غير مسبوقة من الانفلات الفكري والجرأة على الثوابت الوطنية، وأهمها منهج السلف الصالح، الذي هو عقدنا الاجتماعي وشرع الدولة وشرعية نظامنا السياسي. فالرابط بين السياسة والدين رابط مقدس لا يمكن قبول التعدي عليه؛ لأنه يمثل هويتنا ومرتكز كينونتنا واستدامة استقرارنا. يقول تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً". والتأكيد على اتباع نهج السلف تشريعا وتطبيقا لا يأتي من باب التزمت والتفكير الأوحد، ولكن بما يحمله من قيم العدل والإخوة واحترام الحقوق والزهد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلاحيته لإدارة المجتمع، الذي يؤكده تاريخنا السياسي الذي يمتد عبر قرون طويلة من الرسوخ والاستقرار. وإن كانت هناك أخطاء يفترض ألا يحاسب عليها المنهج، ولكن القصور في التنفيذ وعدم الاتباع. ويمكن مقاربة ذلك بالنظم السياسية الأخرى، فعلى سبيل المثال النظام الديمقراطي الغربي الذي ينادي بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان، نجده يخفق في كثير من الأوضاع ويكون دون ذلك. هذا مشاهد في داخل تلك الأنظمة وخارجها، ومن ذلك ظاهرة المشردين في شوارع المدن الأمريكية والاختلاسات المالية وسوء استخدام السلطة، بل إن جماعات المصالح التي هي آلية صنع القرار في النظام الديمقراطي قد أفسدت الحكومة الديمقراطية، كما يقول ثيودرو لوي في كتابه "نهاية الليبرالية". أما فيما يتعلق بفرض ديمقراطيتهم الغربية على الآخرين، فاسأل سكان أمريكا الأصليين، وسكان هيروشيما ونكازاكي، وبغداد وكابول وسايجون وغيرها! وللإنصاف هذا لا يلغي أن هناك جوانب إيجابية في تلك الأنظمة، ولكن الشاهد هنا، أنه يعتريها النقص وهي ليست منزهة من العيوب. وإدراك ذلك والاعتراف به أمر أساسي في تخفيف حالة الاحتقان الفكري التي أصابت البعض؛ لأن مرجعيتهم في الحكم على الأشياء هي القيم الديمقراطية الغربية. والمشكل في هذا الاتباع ليس بتبنيها والدفاع عنها وإثباتها، ولكن في فهمها وتفسيرها في إطار الثقافة الغربية. فمفهوم العدل والحفاظ على الحقوق وحرية التعبير ليست حيادية، وإنما تعتمد على المقدار الذي يحقق التوازن فيما بينها من ناحية، ومدى تحقيقها للمصلحة العامة في مقابل المصالح الفردية من ناحية أخرى، كما يراه كل مجتمع. فحريتهم تلغي القيم والأخلاق الفطرية، فهم يرون التعري والعلاقات غير الشرعية بين الرجل والمرأة خارج مؤسسة الزواج، وإباحة المسكرات، والتهجم على معتقدات الآخرين وغيرها حرية شخصية. وإذا كانت تلك القيم وفهمها محل خلاف، فإن نظامهم الاقتصادي المبني على قيمة الإنتاجية وتعظيمها حد الاستنزاف يمكن الاتفاق على أنه تعدٍّ على البيئة، وهذا باعتراف جميع دول العالم، بينما نجد أن نظام الاقتصاد الإسلامي ينطلق من قيمة الزهد، وهو الاستهلاك بقدر ما يعني خفض الإنتاج، ومن ثم تحقيق الاستدامة والحفاظ على البيئة. من أجل ذلك يكون من الحماقة والسذاجة الأخذ بظاهر النظم الديمقراطية والنظام الإسلامي ومقارنتهما فقط في التطبيق دون الفهم الكامل للمقاصد وعوائق التطبيق لكل منهما.
الأمر المخيف الذي لا يخلو من الجهالة والسطحية أنه استولى على البعض فكرة أن التقدم الحضاري والتطور الاجتماعي والسياسي لا يكون إلا بالتخلي عن قيم نهج السلف الصالح، وقاموا صباحا ومساء ينعتونه بالتشدد والتزمت فقط؛ لأنه يفرض سياجا أخلاقيا يحافظ على النزاهة والتوازن الاجتماعي والاستقرار، فلا يطيقونه ولا يستطيعون العيش داخله. وهو ما جعل البعض ينادي بإلغاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل وصل بهم الحال إلى المطالبة بإلغاء جامعة الإمام محمد بن سعود. وهذا تعدٍّ صارخ على فكرة وفكر الدولة والنهج السياسي المتميز الذي تقوم عليه، بل إنه المعادلة التي ظلت لقرون مصدر أمن وأمان ولحمة الوطن وتوازنه. فجامعة الإمام محمد بن سعود تمثل التميز بالإنتاج العلمي الشرعي والنهج الوسطي، بل هي بحق مؤسسة ذات قيم اجتماعية رفيعة، تتعدى كونها فقط منظمة اقتصادية تخرج الشرعيين والمهنيين في مجالات عدة مطلوبين اقتصاديا واجتماعيا. جامعة الإمام هي رمز يجسد ذروة التوافق بين السياسة والدين، ويؤكد أن دستور البلاد هو الشريعة الإسلامية، ولذا سميت باسم سياسي وطني فذ، تعود جذور تأسيس هذه الدولة المباركة إليه وإلى حفيده ومؤسسها في العصر الحديث الملك عبد العزيز - رحمه الله - الذي سار على النهج نفسه، ومن بعده أبناؤه، ولذا كيف يتجرأ هؤلاء على رموزنا الوطنية وعقدنا الاجتماعي واستقرارنا، مرددين نعيق الخارجين عن المشترك الوطني وسائرين في ركب الغرب، حتى أصبح التحضر والتقدم في قاموسهم يعني التغريب؟! إن السعي في تمييع هويتنا السياسية والثقافية والاجتماعية التي ترتكز على الشريعة الإسلامية هو عمل تخريبي إرهابي يصيب الوحدة الوطنية في مقتل، حتى ولو بهدوء، كما جاء في عنوان مقال أحدهم، وهو يطالب بتفكيك هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإذا لم تكن الدعوة إلى تغيير جوهرنا جهلا وتخريبا وإرهابا فماذا إذا؟! إن القضاء على الإرهاب يأتي بتصحيح الأفكار الهدامة ومحاربة التطرف بجميع أنواعه، فلا إفراط ولا تفريط، ولكن القوم يريدونها تفريطا فقط! وهذا يتطلب مناصحتهم وتثقيفهم بالشريعة، وإذا لم يكن ذلك رادعا فيلزم محاسبتهم وتطبيق العقوبة النظامية بحقهم. فالتطرف يوجد التطرف أيا كان نوعه وفي أي اتجاه كان. ولو كان الأمر بأيدي هؤلاء المنفلتين فكريا المتغربين لفرضوا لباس الغربيين على مجتمعنا، ولألزمونا خنق أنفسنا برابطة العنق استكمالا للإتيكيت، تماما كما يريدون خنقنا ثقافيا استكمالا لمظهر الديمقراطية الغربية. لن نلبس رابطة العنق ولن نتبع إتيكيتهم، فإتيكيتنا السنة باتباع نهج السلف الصالح. إن من يحملون أفكارا تغريبية هم أكثر إرهابا وتخريبا وفتكا لأنهم يريدون شنقنا ثقافيا برابطة عنق!