لا عاصم اليوم في عصر التواصل
أحدثت السلطة الاجتماعية لشبكات التواصل تغيرا في مفاهيم المجتمعات، وبات من الملاحظ تزايد تأثيرها في السلوك الشخصي لمستخدميها. تبدلت القناعات، ودخلت مفاهيم جديدة، وزالت أخرى، في تسارع يحير حتى علماء الاجتماع في تفسير تداعياته. ما لم يكن مقبولا قبل ظهور شبكات التواصل الاجتماعي، بات أمرا مألوفا بعدها، والشواهد حول ذلك أكثر من أن تحصى!
لقد أوجدت هذه الشبكات مساحات متساوية لكل شخص، ليكون مستقلا برأيه، ويبدي ما يشاء حول ما يشاء. فأصبح الكل يدون على ليلاه! منهم من يكتب الأطروحات والآراء، ومنهم من ينتقد أداء بعض الجهات أو المسؤولين بكل جرأة، وأحيانا يتخلل ذلك تجاوز في حدود اللياقة، ربما بسبب غياب سلطة "الرقيب" عن تلك التدوينات، إلا أن ما يجمع ذلك هو سهولة وقوة وانتشار الطرح.
بل وصلت الطرافة مع هذه الشبكات الاجتماعية، أنه ربما تدور الأيام، ويوضع أحدنا في موقع من انتقده! بل ربما يجد المسؤول نفسه في مواجهة آرائه وأفكاره ذات يوم، لو تسلم منصبا ذا تأثير. وقتها قد يردد المقولة الأمريكية: "فكر مليا بما تتمناه، فقد يتحقق لك!". فكيف يمكن أن يتعامل المسؤول الجديد "الناقد السابق" مع هذا الحدث؟
بالطبع، يحق للمسؤول أن يبدي آراءه، ويعبر عن مشاعره تجاه الأشياء والأحداث، فهو كبقية الناس، له ميول وهوايات واهتمامات شخصية. في المقابل، يحق للمجتمع أن يقيم ويحلل هذه الآراء، فنحن في عصر لا يستطيع أحد فيه الاختباء! ولا مفر من أن يعود الناس للأوراق والملفات القديمة ليعيدوا قراءتها. هذا هو الواقع الذي يفرض نفسه، ويفرض علينا أن نتعايش معه في الوقت الحاضر الذي أتاحت فيه شبكات التواصل الاجتماعي للجمهور أن يقيموا المسؤول بشكل أشمل وأيسر، وأن يضعوه "تحت المجهر" قبل وأثناء وبعد المنصب!
يقال شعبويا: "إذا أردت أن تفضحه، فشيخه"! فقد يكون الشخص منتجا وفاعلا، أو قد يكون ضعيفا لا مباليا، وأيا تكن صفاته أو نقاط قوته وضعفه، فلا أحد يعلم عنها. لكن ما إن يتسلم منصبا إلا ويظهر كل شيء للعيان، وهذا ما ساهمت فيه ـــ بقوة ـــ وسائل الإعلام الجديد التي سيطرت على المشهد الاتصالي. وأصبحت بمثابة أداة ربط بين نبض المجتمع والرأي العام والأجهزة الحكومية.
على المسؤول أن يعي ذلك تماما، وأن يتقبل النقد، دون حرج. كما يجب أن يتذكر أن الزمن اختلف، وأن وسائل الإعلام الحديثة قد تضره وقد تنفعه. وأن يجتهد بقدر استطاعته ليكون عند مستوى توقعات من أعطاه الفرصة لخدمة الوطن والمواطنين، وليكون عند توقعات الجمهور الذي ارتفع مستوى وعيه، وبات من الصعب أن تنطلي عليه الأساليب التضليلية. وعليه أن يعرف أن لديه وسيلة فاعلة، تعد بمثابة "خلية" تعمل وتجتهد لإيصال التغذية الراجعة له من 28 مليون مواطن، ربما كان يتمناها مسؤولون في فترة زمنية سابقة ولم يدركوها. إذ يمكن تفعيل هذه الأدوات لجس نبض الجمهور، وإيصال الاقتراحات والأفكار المجانية للإدارة، وتوصيل شكاوى وتظلمات المستفيدين ما يسهم في تلافيها مستقبلا.
دروس ودلالات تستحق أن نقف عندها، أولها: لا يمكن للمسؤول أن يكون ناجحا إذا كانت منجزاته طي الكتمان. ثانيا: شبكات التواصل الاجتماعي، سلاح ذو حدين! ثالثا: على كل الأجهزة الحكومية ومسؤوليها أن يرسموا علاقة وثيقة مع الإعلام الجديد، ترتكز إلى مبادئ الشفافية والمصداقية والموضوعية. رابعا وأخيرا، إن التواصل مع الإعلام الجديد ليس هدفا في حد ذاته، بل مجرد وسيلة يجب الاستفادة من مزاياها بشكل أخلاقي ومهني، بعيدا عن التلميع الزائف الذي لا يلبث حتى ينقلب على صاحبه.