دورة الاقتصادات ومقاييس تأثيرها

في كل مناسبة تقريبا، أو حديث إلى وسائل الإعلام المختلفة، لا بد أن يتطرق صناع القرار في العالم أجمع إلى قضايا الذكاء الاصطناعي، فالمسألة تطرق الأبواب بقوة، بل تغزو منصات الأعمال والتعليم بسرعة أكبر من قدرتنا على رصدها، وهو يتفاعل مع المجتمعات بطريقة غريبة وسريعة ويغير من المشهد الاقتصادي دون أن نشعر، ورغم هذه السرعة في الانتشار فإن العالم لم يزل يتحرك بصورة بطيئة جدا، لا تتناسب مع حجم تأثير هذه الطفرة الإلكترونية، فالذكاء الاصطناعي يتمدد بتطبيقاته عبر مختلف القطاعات من الرعاية الصحية والتمويل إلى الترفيه والنقل، فيقدم مساعدات للأطباء والباحثين عند إجراء تشخيصات أكثر دقة، وتطوير خطط علاجية مخصصة، وإجراء أبحاث طبية رائدة، وظهر المساعد الافتراضي المدعوم به، مثل Olive وx.ai، لإدارة الأعباء الإدارية الطبية والملفات، والمواعيد، وأصبحت الأجهزة القابلة للارتداء المعتمدة عليه، مثل أبل وشركات أخرى، كمراقب صحي يمكنه التواصل مع العيادات إذا لزم الأمر، وفي صناعة التمويل يظهر أكثر شراسة في تلبية الاحتياجات المصرفية، وتوفير المشورة والدعم المالي الشخصي. وتحليل اتجاهات السوق والبيانات التاريخية، وفي قطاع النقل يسهم الذكاء الاصطناعي في تحسين إدارة حركة المرور، وحتى تطوير المركبات ذاتية القيادة، مع تطبيقات تتطور كل يوم مثل خريطة جوجل التي تحدد المسار الأفضل والوقت الفعلي وظروف حركة المرور، وفي قطاع التعليم توفر المنصات التعليمية المعتمدة عليه مثل Duolingo وCoursera تجارب تعليمية مخصصة، وأنظمة التدريس المدعومة به، هذا الهجوم الكاسح والسريع جدا لتطبيقاته تهدد حياة الإنسان الطبيعي من نواح كثيرة، ليس أقلها الخصوصية، لكن ما أصبح يقلق صناع القرار اليوم هو ما ذكرته المدير العام لصندوق النقد الدولي، حول تأثيره في مسألتي التوظيف والاقتصاد العالمي.
ففي تقرير نشرته "الاقتصادية" صادر من صندوق النقد الدولي فإن 60 في المائة من الوظائف في الاقتصادات المتقدمة ستتأثر سلبا بالذكاء الاصطناعي، بينما ستكون عواقب هذه التكنولوجيا أكبر في الدول الأكثر فقرا. كما "أن 40 في المائة من الوظائف في العالم ستتأثر بتحولاته، وستكون الوظائف التي تتطلب مؤهلات هي الأكثر تأثرا"، ويأتي هذا التوجه وفق بحث متخصص أسهم فيه عدد من الباحثين، بعنوان "الذكاء الاصطناعي ومستقبل العمل"، ويلخص تقرير البحث هذه القضية في أن لدى الذكاء الاصطناعي اليوم القدرة على إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي، خاصة في مجال أسواق العمل. والنساء والأفراد المتعلمون في الجامعات أكثر تعرضا، ولكنهم أيضا في وضع أفضل لجني فوائده، ومن المحتمل أن يكون العمال الأكبر سنا أقل قدرة على التكيف مع التكنولوجيا الجديدة، كما أن التفاوت في دخل العمل وفي الثروة قد يتزايد. إضافة إلى تطوير مقاييس جديدة بشأن دوره وتأثيره في الاقتصاد العالمي، حيث يقيس المقياس الأول التكامل المحتمل للذكاء الاصطناعي، ويشير المقياس الثاني لجاهزية هذا الوضع الجديد.
ويشير المقياس الأول إلى أن أخطار إزاحته تمتد إلى أصحاب الأجور المرتفعة أيضا، ولكن ذلك يعتمد إلى حد كبير على مدى إزاحته للعمال ذوي الدخل المرتفع أو تكميلهم له، وهذا يعتمد على اختيارات الدول فيما يتعلق بتعريف حقوق الملكية، فضلا عن سياسات إعادة التوزيع وغيرها من السياسات المالية، فإذا كان هو يكمل بقوة العمل البشري في مهن معينة وكانت مكاسب الإنتاجية كبيرة بالقدر الكافي، فإن ارتفاع النمو والطلب على العمالة يمكن أن يعوض الاستعاضة الجزئية عن مهام العمل به، ويمكن أن تزيد الدخول على طول معظم توزيع الدخل، هذه نتيجة مهمة لأنها تحدد المسارات التي يمكن للدول تحديد مكامن استخدامه وتطوير أدواته، ومن ثم إعادة توجيه خريجي الجامعات للانتقال من الوظائف المعرضة لخطر النزوح إلى وظائف عالية التكامل.
وهنا إذا ضربنا مثلا، فإن خريجي الجامعات في المملكة المتحدة والبرازيل كانوا ينتقلون بسهولة أكبر من الوظائف التي يتم تقييمها الآن على أنها تنطوي على احتمال كبير للإزاحة إلى تلك التي تتمتع بقدر كبير من التكامل، وفي المقابل العمال الذين لم يحصلوا على تعليم ما بعد الثانوي يظهرون انخفاضا في القدرة على الحركة. وقد يكون العمال الأصغر سنا الذين لديهم القدرة على التكيف والمطلعين على التكنولوجيات الجديدة أكثر قدرة على الاستفادة من الفرص الجديدة. وفي المقابل، قد يواجه العمال الأكبر سنا صعوبة في إعادة التوظيف، والتكيف مع التكنولوجيا، والتنقل، والتدريب على مهارات العمل الجديدة.
ويظهر مؤشر جاهزية الذكاء الاصطناعي أن على اقتصادات الأسواق الناشئة المتقدمة والأكثر تقدما أن تستثمر في ابتكاره وتكامله، مع تطوير أطر تنظيمية مناسبة لتحسين الفوائد من زيادة استخدامه. وبالنسبة للأسواق الناشئة والاقتصادات النامية الأقل استعدادا، فإن تطوير البنية التحتية الأساسية وبناء قوة عمل ماهرة رقميا أمر بالغ الأهمية. بالنسبة لجميع الاقتصادات، تشكل شبكات الأمان الاجتماعي وإعادة تدريب العمال المعرضين للذكاء الاصطناعي أهمية بالغة لضمان الشمولية. وتأكيدا على هذه النتيجة فإنه أصبح في حكم المؤكد أنه سيحدث تأثيرا، إلا أن هذا التأثير سيكون مختلفا، فإما تزول الوظيفة التي يمارسها الفرد وإما تشهد تحسنا، وهذا ما يشير إليه البحث بالتكامل، ولكن هنالك تساؤلا مطروحا، وهو: ماذا ينبغي أن نفعل للمتضررين، وكيف نتقاسم المكاسب الخاصة بالإنتاجية، وكيف نستعد بشكل أفضل؟ وهذا هو مؤشر الجاهزية الذي يرسم اليوم صورة مقلقة بشأن الفجوة بين الدول المتقدمة والدول الأخرى التي قد لا تستفيد بالقدر نفسه من الابتكارات المستقبلية.
خلاصة الأمر فإنه من المهم إذن أن تعمل الدول على معالجة مسألة الجاهزية والتكامل معا كقضية واحدة، فعدم الجاهزية سيخرج الاقتصاد بأكمله من السباق العالمي وقد يتأثر النمو في المستقبل مع تراجع القدرة على الابتكار والتعامل مع منتجات المستقبل، وعدم التكامل قد يخرج عديدا من الوظائف والعمال من السوق، أو يصبح التفاوت في الدخل كبيرا جدا وتتزايد المخاوف من عدم المساواة مع ما تجلبه من مشكلات اجتماعية لا حصر لها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي