إشكالية التحليل في السياسة الدولية (4 من 4)
لقد تجاوزت مدلولات وأبعاد أزمة التحليل في السياسة الدولية ـ في منطقتنا ـ حدود المعقول في بعض الأحيان، فبجانب إشكاليات التنظير والتراكم العلمي، أصبح هناك إشكاليات أخرى ذات صلة، فمن التشتت في فهم وتفهم المصطلحات والمعاني إلى حتى إدراك واستيعاب أدوار ومخرجات العوامل المؤثرة في المجتمع الدولي؛ أصبح لدينا مشكلة حقيقية لا يمكن حصر أبعادها بسهولة.
بهذا وصل الأمر في بعض الأحيان لعدم اكتراث البعض في التفرقة بين مصطلحات ومفاهيم وأمور تعد في الأصل بديهية وأساسية في عالم التحليل السياسي، فهناك على سبيل المثال (وليس الحصر) من لا يفرق - أو لا يريد أن يفرق ـ بين مفاهيم أساسية كمفهومي "الحكومة" و"الدولة"؛ حيث يرجع لكلا المفهومين كمرادفين بديلين لبعضهما لا أكثر، وهناك من لا يفرق ـ في مثال مواز آخر- بين قرارات مجلس الأمن وتوصيات الجمعية العامة، إلخ، بل إن تسطيح الأمور ـ في حدود أضيق مما ذكر ـ أوصلت الأمر إلى درجة جعلت البعض يدمج بين مفهومي "النظام العالمي" و"العولمة".
فإذا كان هذا يحدث في البديهيات، فإن الأمر يعد أكثر سوءاً عندما نأتي للمفاهيم الأكثر تعقيداً. وهذا بعينه ما يجعلنا نعزو جذور أزمة تحليل السياسة الدولية إلى غياب ـ أو تغييب ـ التثقيف العلمي الأكاديمي لهذا الموضوع الحيوي والمهم.
بجانب كل ما ذكر، فإن معالجة هذا الموضوع لا تكتمل دون التطرق لأهمية (وضرورة) انسجام واتساق التحليل في السياسة الدولية مع طبيعة التطورات (والتغيرات) الحاصلة في النظام الدولي، فهناك شبه إجماع بين المتخصصين في هذا الحقل على اتسام كل مرحلة من مراحل تطور النظام الدولي بمدلولات وأبعاد خاصة تجعل لكل منها أدوات وطرق تحليل خاصة. فما يصلح من أدوات ومعادلات التحليل فترة أو مرحلة معينة قد لا يصلح مرحلة أخرى. ولعل آخر ثلاث مراحل من مراحل تطور النظام الدولي توضح لنا هذا الأمر بشكل أوسع.
فقد كان هناك تطبيقات خاصة للمرحلة التي سادت بين الحربين العالميتين؛ وهي المرحلة التي اتسم فيها النظام الدولي بتعددية الأقطاب. وهكذا الحال بالنسبة للمرحلة التي تلتها بعد الحرب العالمية الثانية، التي ساد فيها نظام القطبين حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي. وحصل كذلك تطبيقات خاصة بالنسبة للمرحلة الثالثة، التي توالت تطوراتها خلال الـ 16 سنة الماضية، التي اتسم فيها النظام الدولي بأحادية القطبية، فعلى سبيل المثال فإن التطبيقات النظرية التي كانت تطبق بالنسبة لأدوات التحليل المتصلة باستراتيجيات المعسكرين الغربي والشرقي المتنافسين خلال المرحلة الثانية لا تنطبق بالضرورة على المرحلة الثالثة التي زال فيها التنافس الاستراتيجي الذي كان بارزا بين أقطاب المعسكرين، والأمثلة هنا كثيرة ابتداء من استراتيجيات التوسع العسكري من خلال التسابق على بناء القواعد العسكرية المضادة، وانتهاء بأمثلة التحالفات المتناقضة في كلتا المرحلتين.
ولعل كل ما ذكر ـ هنا وفي المقالات السابقة ـ يقودنا إلى الوقوف على أبرز أبعاد ومدلولات "إشكالية التحليل في السياسة الدولية"، وهي الإشكالية التي يستلزم فيها الأمر إلى تضافر الجهود المؤدية للخروج من انعكاساتها السلبية.